قلت لمرافقي هذه رحلة كاملة وجميلة وليست زيارة!! فهي على الأقل أخرجتنا من ساس يسوس هذا «السوس » الذي نخر في حياتنا وأفسدها..! قال مرافقي: وهل تسمي هذه الزيارة لهذا المكان رحلة وهي لم تستغرق أكثر من عشر دقائق من بيتكم في الدروشاب!! قلت له العبرة في «المعاني» وليس في «الأواني» كما يقولون!! في بداية الجلسة حكى أحدهم قصة العامل الأجنبي الذي يعمل في أحد الفنادق الكبيرة في بلادنا وهو يتقاضى مرتباً يتعدى ال 23 مليون جنيه بالقديم وبالتمام والكمال!! الوظيفة «فندقية» ولا تجد أحد من أبنائنا يشغلها والسبب ببساطة إننا لا نهتم بالتعليم الفني والتقني ونزدريه..!! وحكى أحدهم قصة صاحبنا الذي لم يجد وظيفة وهو الحاصل على مؤهل جامعي مرموق وذهب «لسوق الله أكبر» واشتغل عاملاً حرفياً ودر عليه عمله دخلاً كبيراً ومحترماً وبعدها بسنوات تركها والتحق بوظيفة حكومية بمرتب لا يتعدى ربع ما كان يأخذه في عمله الحر!! وعندما سأله أصحابه عن السر في ذلك قال لهم أنا أريد الزواج ولازم أدخل بي وظيفة حكومية!! ربما تبدو الآن صورة الرحلة التي قمت بها قريبة للأذهان فهي كانت لمركز التدريب المهني بحلفاية الملوك ونظمها لنا - مرافقي - الأخ حسن عبد الوهاب من المجلس الأعلى للتدريب المهني والتعليم الفني بولاية الخرطوم. لقد جاءوا للمكتب وأطلعوني نظرياً على فكرة هذه المراكز الحديثة التي بدأت تنتشر في الولاية «وهي ثلاثة» وجاءت لهزيمة مثل هذه الأفكار التي تحدثنا عنها أعلاه ولتدريب الشباب بطريقة جديدة ومبتكرة لا تلغي القديم ولكنها تستصحب أحدث تقنيات وابتكارات العالم من حولنا.!! لقد بدأ لي الأمر أشبه برحلة وأنا أتجول مع هؤلاء الشباب. المهندس هيثم مدير المركز وفريجون مسؤول التسويق وآخرون يتوهجون شعلة ونشاطاً نعم من رأى ليس كمن سمع فقد وجدنا مركزاً مؤهلاً ومتقدماً ويملك ورشاً حديثة وقاعات وأجهزة ومعدات بشراكة ذكية مع الاتحاد الأوربي يمكنها أن تقدم شيئاً مفيداً وكبيراً لشبابنا في مجالات اللحام والكهرباء والفندقة والتجميل والحاسوب التطبيقي . لقد رأينا نشاطاً كبيراً وتجربة جديرة بالوقوف عندها وتأملها في ظل ظروف بائسة يعيشها شبابنا من عطالة ومن انسداد الأفق أمامهم للحصول على مهنة تحقق لهم بعض آمالهم وأحلامهم في حياة حرة كريمة ومثل هذا النوع من التعليم هو الأساس الذي قامت عليه نهضة الدول الصناعية الكبرى وهي تغزو اليوم بمنتجاتها كل العالم. ومثل هذا التعليم هو خطوة في مشوار الألف ميل لإيقاد شمعة في «ليل » الخلل الكبير الذي نعانيه في النظرة القاصرة للتعليم التقني وتفضيل وتدليل التعليم الأكاديمي عليه بصورة جاهلة «ووبائية» أوصلتنا لهذا الخلل المنهجي الذي نعيشه اليوم ما بين مخرجات مؤسسات التعليم وسوق العمل الحقيقي. ü أتمنى أن تكون هذه الزيارة قد أوصلت الفكرة كاملة.