القرار الصواب مثل عمل الخير كلاهما ينعكس على الوجوه، خطر لي ذلك وأنا اتأمل ملامح متخذ قرار فى موقع إنساني يقصده أصحاب الحاجة، فكدت أغبطه لسرعة الإجراء فى شأن خطير وعلى طريقة(خير البر عاجله). ليت كل صاحب قرار ينظر للأمر على أنه خير فيعجل به، فتتهلل أساريره قبل المستفيد من القرار. انشغلت بالتجربة التى أمامي، وجدتها استبطنت قدرة على التقدير الصحيح لكل (حالة)، والمراجعة والأخذ بمبدأ الشورى، تذكرت أنه بمقدور الإرادة السودانية أن تتخذ القرارات الصعبة التى يكون من شأنها أن تسعد أكبر عدد من الناس، وهذا هو المهم الآن وقيادة الدولة والمجتمع مشغولون بهموم الانفكاك من حالة الحرب والفقر الى النهضة الشاملة، برغم ضخامة الإنفاق من مال الزكاة والمال العام، فإن قضايا مثل مكافحة الفقر وتهيئة المجتمع لينهض ذاتياً تجدد التفكير فى مواعين أوسع للإنفاق لتلبية حاجة المجتمع ليتعافى مما أقعده عن طموحاته الكبرى، وذلك ترقية ودعماً لما تقدمه الدولة بصناديقها الاجتماعية وفى مقدمتها ديوان الزكاة، ومع ما حقق الديوان من أرقام قياسية هناك إضافة أكبر يشكلها هذا العطاء المفتوح للخيرين وأهل الإنفاق الأوسع والتكافل الذين لا يخلو منهم بيت. العائد النفسي لهذا الإنفاق لافت للنظر، حيث هو تربية على المروءة وتزكية للنفوس ليجري التنافس بين الناس سراً وليلاً وبلا حدود، لتفاجأ بالعائد يمشي بين الناس خيراً وبركة وتعايشاً، الإنفاق موضوع محبب فى المجالس يحفز للمزيد، إننا كسودانيين نتستر عليه غالباً، حيث لا تعلم يسارك ما فعلت يمينك، فكيف يتسنى توسيع دائرة الإنفاق فى مجتمع متواصل بهذه السرية؟ المسؤول الذي زرته يقصد بابه المتعففون، وجدته مشغولاً بتوسيع مواعين الإنفاق وقال إنها محل دراسة وأمدني بنسخة، قبل الإطلاع عليها استوقفتنا نزعة الإنفاق المتأصلة والمتنامية فى المجتمع، بدليل أعمال الخير المنداحة بين الناس فى السر والعلن(ما شاء الله)، ومشروعات العمل الطوعي (المستشفيات، المساجد، المدارس والجامعات)، والتسابق على أداء زكاة الفطر. عطاء المجتمع كم يساوي بالأرقام؟ الأرقام لا حصر لها، لكن الإشارات تعكس الإحساس بما امتلك أهل السودان من موارد مطمورة فى قيمهم ومبادراتهم الذاتية تحت مظلة الإنفاق الذي يشكل مال الزكاة جزءاً منه. المظلة الأكبر هي الإنفاق، والدعوة اليه أيسر والناتج أوفر وهو معزز لفريضة الزكاة التي أوجبها الله سبحانه جل شأنه، فكيف اذا اهتدينا لإثراء منابع الإنفاق ليفيض أكثر ويلحق بحاجة الناس. نزعة الإنفاق جديرة بالملاحظة لتنميتها، أبوابها عديدة ومصدرها سجية عظيمة هي الإيثار(ويؤثرون على أنفسهم..) سورة الحشر، ولذلك يدخل المدح والثناء والحمد لله، في تنميتها كفضيلة. والشيخ عبد الجليل الكاروري صاحب التأملات القرآنية، يدعو للأخذ بإشراقات الآية التي ربطت بين جمع الزكاة والدعاء بالبركة لمن أدوا حق الله(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِ عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم...) التوبة، في الدعاء تحفيز للمنفق لينفق أكثر ويزداد رضى. إمام مسجدنا ضرب مثلاً، فمنذ فتح باب الإنفاق على المسجد وإعماره ظل يبتهل بحرارة لمن أنفق حتى أن ذلك حفز الآخرين ليحذو حذوه فاكتمل المسجد على خير وجه، وفي تجوالنا لجمع المال سمعنا عجباً، فهناك من ملأ يده ومد بها دون حساب ليرد مبتسماً على تعجبنا: (تخرجون من هنا ويأتيني مضاعفاً من هنا)، دعونا له فانشرح صدره. المطلوب خطاب معنوي تجاه من ينفقون، يقول بعض السلف الصالح:(من أخذ مني صدقة أو هدية، فحقه عليّ أعظم من حقي عليه، لأنه قبل مني قرباتي الى الله عز وجل) الليث بن سعد.. ويقول الحسن البصري (اللهم هذا يسألنا القوت ونحن نسألك الغفران، وأنت بالغفران أجود منا بالعطية)، ولذلك ارتبط الإنفاق والزكاة بالخطاب الدعوي (الجاذب) القابل للتطور مع تطور وسائل الاتصال وتقنية المعلومات ليقترب أكثر من القلوب موضع الإيمان. وجدت مثالاً لهذا الخطاب في هذه الدراسة للدكتور جابر إدريس، وهذه الجلسة العابرة بمكتب المسؤول الأول عن الزكاة بولاية الخرطوم الأستاذ سعيد الحسين ونائبه خبير شؤون(العاملين عليها)، الأستاذ مبارك صديق. الحاجة ماسة لخطاب جاذب يدعو لتوسيع مظلة الإنفاق، واتخاذ مواقف إيجابية بدافع وجداني ينبع من العقيدة ليعيش الفرد فى كفالة الجماعة وتعيش الجماعة لمؤازرة الفرد في إطار منظومة قيمية أرساها صاحب الرسالة الخالدة (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وغايتها ربانية (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات، هكذا تتحدث الدراسة. التوصيات ترتب مسؤولية الدولة في المقدمة وتدعوها لإحياء قيم التكافل والإنفاق وتبني البرامج التي تحفز المجتمع للبذل في أوجه الخير وتحري المستحقين، مع الإهتمام بالبحوث والقوانين ورعاية مؤسسات العمل الطوعي وفتح فرص العمل وتأهيل القادرين على الكسب عملاً بسنته صلى الله عليه وسلم (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده). إن المزيد من المبادرات منتظرة من الدولة والمجتمع معاً ولدينا الأمثلة لتعزيزها، ومنها(كشف المناسبة)، ذلك المدهش وأيادي الصحافة والإعلام(الدنيا بخير)، و(الصلات الطيبة)، و(صندوق رعاية المبدعين)، و(الجودية).. وكم من مبادرة للدولة وديوان الزكاة، كعيد اليتيم، الراعي والرعية، وتعظيم رمضان بالإنفاق.. وبالإمكان تعميم ذلك لكل الشهور. وما خفي أعظم وأبرك.