غبار كثيف تصاعد حول المعركة الانتخابية في جنوب كردفان الولاية الحدودية المحاذية للجنوب، طرفاه الرئيسيان المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. ذلك لم يكن غريباً في حد ذاته، فكل الحملات الانتخابية في أي مكان من العالم تشهد تصاعد الأغبرة والدخاخين والكلام الذي يحمل النذير والبشارات. لكن انتخابات جنوب كردفان اكتست بعداً «مصيرياً» ربما بسبب قربها من الجنوب وبسبب إدارية أبيي المتنازع عليها، وأكثر من ذلك لأن الولاية كانت في بعض مناطقها جزءً من الحرب التي كانت دائرة في الجنوب، واستطاعت الحركة الشعبية أن تقيم لها قواعد و«مناطق محررة» فيها، مثلما كان عليه الأمر مع ولاية النيل الأزرق. فأصبح للحركة وجود عسكري و«ميليشاوي» وسياسي يصعب على من يفوز بانتخاباتها أن يتخطاه أو يتجاهله، وهو الواقع الذي فرض نوعاً من الشراكة التنفيذية والإدارية بين المؤتمر الوطني وواليه احمد هارون من جهة والحركة الشعبية وممثلها عبد العزيز الحلو الذي احتل مركز نائب الوالي طوال الفترة السابقة للانتخابات، ومنذ أن تعسر الإحصاء السكاني، الذي اعتبرته الحركة الشعبية تزويراً صريحاً، مما دعا لتأجيل الانتخابات عاماً كاملاً. إذن، بذور الصراع وجذور النزاع مغروسة في الأرض بشكل مسبق، ولم يكن على الفريقين إلا إرواءها بماء خلافاتهما القديمة حتى تنمو وتربو وتستوي على سوقها ومن ثم تجفيفها وإطلاق شرارة في أحد أطرافها لتحرق السهل والجبل. وإذا ما تجاوزنا الاتهامات والاتهامات المضادة الصادرة من الفريقين المتنافسين للفوز بانتخابات جنوب كردفان، وحاولنا فهم الحقائق على الأرض من مصادر صحفية موضوعية، فإننا لانكاد نجد إلا تقريراً إخبارياً واحداً نشرته جريدة الصحافة يوم السبت الماضي لمندوبها الميداني الموفد إلى الإقليم «عباس محمد إبراهيم» كتبه تحت عنوان موحٍ «إنها الحرب تثقل القلب..!». التقرير حمل نذر الحرب التي يمكن أن تشتعل في الولاية بسبب نتائج الانتخابات المختلف عليها بالرغم من التطمينات التي أطلقتها أكثر من مرة اللجنة الأمنية التي تتحدث عن «هدوء الأحوال وعدم وجود ما يخيف» وفقاً لرئيسها تاو كنجيلا، الذي كشف عن الإجراءات التي اتخذتها لجنته التي «أمرت خلالها جميع القوات بعدم دخول الأسواق وتقليل المظاهر العسكرية» بعاصمة الولاية كادقلي. وأشار التقرير إلى «أن الحرب لا يمكن استبعادها بشكل كامل، لأنها السيناريو الأرجح والمتوقع مهما استبعدها السياسيون». وفي حوار له مع أحد الشباب قال مراسل الصحافة عباس إن ذلك الشاب أبلغه «أنهم سيتقاتلون»، لافتاً نظر المراسل بالقول: هل شاهدت حركة الناس التي تغادر الولاية والجيوش التي دخلت الآن، هل هي لتأمين الانتخابات؟ وركز التقرير إلى أن سكان الولاية يرفضون الحرب حتى أنهم أوقفوا عادة إطلاق النار ابتهاجاً في الأعراس حتى لاتستغل كذريعة من أي طرف ليقود المنطقة لاندلاع العنف، الذي إذا انطلق لن يستطيع المؤتمر الوطني أو الحركة السيطرة عليه وإخماد نيرانه. في وسط هذه الأجواء المشحونة لم تنج مفوضية الانتخابات ولجنتها العليا من الاتهام، بل أصابها الرشاش من اتهامات التزوير الصادرة من الحركة. فالأزمة التي انطلقت في اليوم الثاني لعرض النتائج وفتح المظاريف لم تبارح مكانها -بحسب تقرير «الصحافة»- بل زادت تعقيداً، فالمفوضية بعد اتفاقها الذي تجاوزت به الأزمة في المرة الأولى منتصف الأسبوع الماضي عادت وتنكرت لذلك الاتفاق، مما دعا لمزيد من الغضب في جانب الحركة، ليتم تصنيف المفوضية من جانبها «كضلع ثالث» في تنفيذ مخطط التزوير. ونسب التقرير إلى السيد قمر دلمان مستشار رئيس الحركة بالولاية قوله: نحن لا نتحدث عن التزوير في الصناديق فتلك مرحلة استطعنا تجاوزها بقدرة عالية وفائقة، لكن الآن هناك نتائج قمنا بالتوقيع عليها بالمراكز وعند فتحها أمام اللجنة تفاجأنا «بعدم وجود تواقيع وكلائنا» وهذا تزوير فاضح، بالإضافة إلى «تعديلات بقلم حبر أزرق» لعدد من الأرقام، كل هذا دعانا للتمسك بموقفنا، فنحن ندافع عن حقوق شعب الولاية وليس الحركة. يعزز هذه الاتهامات والشكوك ما أعلنه الأستاذ ياسر عرمان أمين عام الحركة الشعبية بالشمال في مؤتمر صحفي بالخرطوم أمس الأول ضم بعض رموز قوى التحالف الوطني من أن الأزمة الحالية تولدت من قضيتين رئيسيتين تمثلتا في «إضافة مركز للمراكز المعلنة مسبقاً من قبل المفوضية»، وهو مركز نصبته اللجنة العليا للانتخابات بالولاية ولم يكن به مراقبون ولا وكلاء أحزاب، وطلبت اللجنة من الحركة القبول به متعللة بضيق الوقت الذي لم يكن كافياً لإخطارها بالمركز الجديد أو إطلاعها على أحواله، كما اتضح -كما قال- وجود عدد أكبر من المسجلين في مركز آخر عن العدد الذي يحق لهم التصويت، وبالتالي يجب إلغاء هذا المركز والمركز الآخر الذي لم تطلع عليه الحركة. لكن أهم ما في حديث عرمان هو أن الحركة وقوى الإجماع الوطني لن تقبل بنتائج الانتخابات في ظل التزوير، كما لم تقبل بالشراكة التي يطرحها الوالي أحمد هارون، الذي أعلن يوم السبت أنه الفائز، وأنها وقوى الإجماع الوطني سيلجأون للمقاومة السلمية ولن يلجأوا للحرب، ومن بينها دراسة انسحاب نواب الحركة والمؤتمر الشعبي من البرلمان القومي «ليصبح مجلس شورى للمؤتمر الوطني» وأن ذلك سيفتح الباب أمام القوى السياسية للمطالبة بإعادة الانتخابات. لكن الوالي هارون في مؤتمره الصحفي الذي عقده لإعلان فوزه حتى قبل إعلان النتيجة من جانب المفوضية، حمل عرمان وما وصفه ب«يسار الحركة الشعبية الشمالي» مسؤولية «محاصرة عبد العزيز الحلو رئيس الحركة بالولاية ونائبه السابق وضرب سياج حوله عزله عن محيطه الداخلي والشراكة ومحيط الولاية»، وقال إن هذا التحول تم لحظة وصول عرمان وفريقه للولاية. وهو على كل حال تقرير لا يصح في حق الحلو، الذي يتبوأ مركزاً متقدماً في قيادة الحركة الشعبية ربما يتفوق على عرمان المتهم بالسيطرة عليه، كما ينطوي على إساءة للرجل بدمغه بضعف الإرادة وقلة الحيلة، هذا إذا لم يعتبر التصريح نجد ذاته تدخلاً في شؤون حزب آخر ومحاولة لزرع الفتنة بين قادته. خصوصاً بعد أن أعلن الحلو صراحة في مؤتمر صحفي عقده الجمعة عدم اعتراف الحركة بنتيجة الانتخابات أيّاً كانت، وطالب الضامنين لاتفاق السلام والمجتمع الدولي للتدخل لإيجاد حل «لهذا الوضع الشاذ» واستبعد في الوقت نفسه اللجوء إلى العنف قائلاً إنه «لا مجال للسلاح»، وأكد على الخلافات الفنية بين الحركة ولجنة الانتخابات منذ بدء عمليات الاقتراع، وعدم مشاركتهم في مرحلة التجميع والمطابقة لعدم التزام المفوضية والمؤتمر الوطني بالقانون ومعايير النزاهة، معلناً انتهاء الشراكة مع المؤتمر الوطني بعد هذه الانتخابات. مؤكداً أنهم يمارسون عملاً محكوماً بالدستور والقانون وممارسة الشعب لحقوقه، والاختلاف الآن حول شفافية العمل من عدمها، وأن موقفهم «يسنده القانون وقواعد العمل الديمقراطي». من كل ذلك نخلص إلى محصلة هامة، وهي أن الانتخابات في جنوب كردفان قد انطوت بخيرها وشرها، أي بصحتها وتزويرها، وأنها بأي حال من الأحوال لن تقود إلى حرب بين طرفيها -المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- فكلاهما ليس في موقف يمكنه من الإقدام على الحرب، كما أن أهل المنطقة أنفسهم قد ملوا الحرب وعدم الاستقرار. أما الانسحاب من البرلمان، الذي يتربع المؤتمر الوطني على أكثر من 90 في المائة من مقاعده فلن يكون ذا أثر، والمقاومة السلمية عبر الضغط الجماهيري والتظاهرات لن تكون «سلمية» حتى لو أراد لها منظموها ذلك، لأنها عملياً غير مسموح بها وتسييرها يحتاج «إذناً»، الحصول عليه أسهل منه الحصول على «لبن الطير». وهذا يجعلنا نتوقع وضعاً شبيهاً بالوضع الذي شهدناه بعد انتخابات أبريل 2010 التي أعلن العالم كله أنها «لم ترق إلى المعايير الدولية للشفافية»، ومع ذلك قبلها وصمت، وصمت السودانيون أيضاً، ولكن إلى متى؟ الله وحده العالم!