جسد رحلة حياة الأخ الدكتور محمد الفاتح بريمة حقيقة أن طول عمر الإنسان بالبركة التي تتخلل أيامه، والقبول الذي يلازم نياته وأعماله، لا السنوات التي يعيشها وإن طالت!! وباطلالة عاجلة على محطات حياته نجد أنه عليه رحمة الله ورضوانه كان صاحب فكرة رابطة أدباء جامعة الخرطوم ومن المؤسسين لها.. ساهم مع أخوان له واخوات في تحويل فكرتها الى حياة تمشي، ومؤسسة قدمت للسودان نوابغ في مجال الشعر والأدب، ومنهم مثالاً لا حصراً، الأخ الدكتور محمد الفاتح ميرغني، والأخت الكاتبة والشاعرة هاجر سليمان طه، وأخوة آخرين، الأخ صالح بجامعة الإمام المهدي، والأخ الدكتور فؤاد بجامعة الخرطوم وغيرهم، ممن تضيق المساحة باسمائهم الخالدة في الوجدان والدواخل.. ولا أخال أن أخواني الذين تنادوا لخيمة العزاء قد نسوا تذكر المواقف والقفشات الضاحكة التي كانت تجمع بين الراحل العزيز دكتور محمد بريمة والأخ الشهيد علي عبد الفتاح، وهي مواقف وقفشات امتدت من حرم مسجد جامعة الخرطوم مروراً بساحات ومنابر الجامعة، وحتى أدغال مناطق العمليات بجنوب السودان، حيث لا يتوقع الكثيرون ممن عرفوا الدكتور محمد الفاتح بمظهره الأنيق وانجليزيته الرصينة ونفسه الهينة الودودة وصمته المتأمل, ربما لا يتوقعون أن يكون رجلاً مثله قد شارك في المتحركات القتالية بجنوب البلاد، بل هو من البدريين الذين شاركوا في كتيبة الأهوال الأولى تقبل الله منه جهاده وسعيه.. ولعل ولع واهتمام الأخ الراحل باللغة الانجليزية منذ سنوات عمره الأولى وتركيزه عليها في الجامعة قد أثمر خيراً كثيراً لبلاده.. لم يكن غريباً للذين يعرفون الفقيد العزيز عن قرب, لم يكن غريباً عندهم ماشاهدوه من حزن وتأثر حد البكاء من قبل عدد من الأجانب و(الخواجات) الذين توافدوا لخيمة العزاء لمواساة أهله، لما تربطهم به من علاقات وصلات وظفها لصالح وخير أمته، ويكفي أن نشيرهنا الى الدور المحوري الذي لعبه الراحل العزيز في معاونة ودعم الأخ الدكتور محمد محجوب هرون في قضية المشورة الشعبية بالنيل الأزرق وجنوب كردفان، فقد لعب دوراً محورياً في التنسيق لكل الأعمال التي تمت في هذا الصدد، هذا فضلاً عن جهده عبرمعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم في التحضير لعدد كبير من الجولات والزيارات التي يقوم بها الرئيس ثامبو امبيكي للبلاد.. * شكل د محمد الفاتح حضوراً متميزاً لبلاده في المحافل الدولية، من خلال الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وساهم بصمت وصدق في تنوير وتذكير العالم الخارجي بحقيقة مايدور في السودان، خلافاً لما تردده وتسوقه منظمات وشخصيات تدعي كذباً الوطنية، وهي تطعن السودان بحربة معارضة النظام وخنجرها المسموم.. وكان لافتاً الحضور المتميز لدكتور بريمة في اجتماعات الجمعية العامة لحقوق الإنسان بجنيف.. * قلت بالأمس إن انشغال الأخ المغفور له بإذن الله محمد الفاتح بريمة بهموم وطنه الكبير وأمته العظيمة، لم ينسه فضل الخيرية لأهله وعشيرته في مقصدها الكبير.. سيبكي طلاب المدارس وتلاميذ منطقة الرهد بشمال كردفان ابنهم محمد الفاتح، والذي ظل يقدم الكتاب المدرسي مجاناً من خلال من المنظمة السودانية لتطوير التعليم، وقد كان ذاهباً في رحلته الأخيرة بغرض الاطمئنان على مشاريع المنظمة هناك، والاستعداد لمشاريع بداية العام الجديد.. هي إذن البركة التي تحف حركة الإنسان عندما يخلص سرائره وأعماله لوجه الله تعالى، حيث تبقى آثاره حية تمشي بين الناس تنمو أعماله ويرتفع ذكره عند الباقين بحسن السيرة وطيب الدعاء.. هذا قليل من كثير سيذكره أخوان وأحباب ومعارف الأخ الراحل محمد الفاتح بريمة.. وسيعيد أبناء جيله ومعاصروه في جامعة الخرطوم صفحات الحزن علي اخوان له من جامعة الخرطوم صعدت أرواحهم الى السماء في هذا الطريق.. طريق الخرطومكوستي الابيض.. هنا مات الأخ توفيق عوض في حادث حركة.. ومات أيضاً الأخ محمد أحمد يوسف في حادث حركة مماثل.. وهاهي تصاريف القدر تجمع شباب الاتجاه الإسلامي في تلك الأعوام والأجيال أمام مشهد جديد من تاريخ الإسلاميين الحديث.. فمن عجائب الزمان انهم يجتمعون في الأحزان .. والمواجع.. يبكون ويتأثرون.. لكنهم مع هذا متفرقون في وجه المخاطر والمحن، والعدو الذي يشحذ سكينه ليجهز على الجميع وهم عن مكره غافلون!! رحمة الله على أخي محمد.. فها أنت تعظنا حياً.. وميتاً !! (إنا لله وإنا اليه راجعون)..