وبلادنا تدلهم بها الخطوب، وتتناوشها السهام من الداخل والخارج.. لم نجد أقرب إلينا من دولة قطر، ولا أكثر عضداً ومؤازرة.. فتحت لنا أبوابها ولا تزال تفعل لحوار السلام، وبسطت كفها تنفق لوجه الله ما يتطلب ذلك من نفقات.. وليس لقطر في بلادنا مطمع ولا غايات بخلاف حدبها على استتباب الأمن في الإقليم العربي قاطبة، فما أعظم ما تروم.. وما أنبل ما تقوم به من مبادرات طوقت أعناقنا بالعرفان والجميل.. لم نجد هذه المؤازرة مِنْ مَنْ هم أقرب إلينا من قطر جغرافياً وتاريخياً.. رعى أمير قطر حفظه الله زخراً لبلاده وأمته، مفاوضات سلام دارفور ببلاده بصبر عجيب.. لم يمل طول المفاوضات وتعرجها وانفضاض بعض المفاوضين وعودتهم وتصلب آراء البعض وتعنتهم.. ظل يحمل بين الفرقاء غصن الزيتون في هدوء نبيل، وإن كان هذا دأب سمو الأمير، فإن أعوانه سفراء بلاده يتحلون وهم يؤدون مهامهم في شتى بقاع الدنيا بذات الخلق الرفيع النبيل. وصلتني الأسبوع الماضي دعوة شخصية من سعادة سفير قطر بالخرطوم علي بن حسن الحمادي لإفطار بمنزله بحي المنشية أقامه الجمعة الماضية، وقد آثر أن يرسل الدعوة بالتليفون بنفسه لكل المدعوين وليس عبر السكرتارية، وفي هذا أدب جم يشكر عليه، وصلت إلى هناك وتم استقبالي داخل السفارة، حيث يقيم السفير بترحاب وتهذيب.. وقد أوضح لي صديقنا د. مصطفى دياب اختصاصي العظام المعروف وهو أحد المدعوين وقد سألته عن المناسبة.. فأفادني بأن سكان هذا الجزء من المنشية اتفقوا أن يرتب أحد السكان إفطاراً يوم الجمعة من أول كل شهر لبقية سكان الحي، صقلاً للعلاقات الاجتماعية وتوسيعاً لمواعين الوداد والمعرفة بين أهل الحي.. وطلب سعادة السفير أن يبدأ هو بالإفطار.. وقد بلغ عدد المدعوين ما يقارب الخمسين شخصاً جلهم من سكان الحي بما فيهم وزير الداخلية، ومن خارج الحي تمت دعوة والي الخرطوم ووزير الزراعة الولائي وعدد من رموز المجتمع، وبرغم أن لي مسكناً قريباً من السفارة، إلا أن الدعوة وجهت لي لمعرفتي الشخصية بسعادة السفير.. الذي تربطه علاقات متينة مع سكان الخرطوم من ساسة وأدباء وأهل صحافة وفكر، ورغم الحضور للمحافل الفكرية والأدبية والفنية.. وقد وقف بالباب يستقبل ضيوفه في بشاشة غامرة وترحيب وبشر.. تعلو وجهه السعادة والحبور فتذكرت إذ غمرتني البشاشة وهو يستقبلني أبيات شعر نسبت لكريم العرب حاتم الطائي تتحدث عن معاني طرح الوجه والبشاشة في الكرم تقول: «أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله فيخصب عندي والمكان جديبُ وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيبُ». وقد زرت دولة قطر في مرات عديدة وكانت بشاشة المضيف في كل الدعوات التي لبيتها، هناك دأب أهل قطر جميعهم حتى أيقنت أن أصول حاتم الطائي قطرية والله أعلم.. طفق السفير وقد دخل الضيوف إلى صالة الطعام، بنقل الأطباق بنفسه ويضعها أمام الضيوف، فقلت لنفسي هكذا يكون التواضع ويكون الكرم.. وليت كل سفراء بلادنا بالخارج يفعلون ما يفعل الأخ علي الحمادي من تمتين للصلات والصداقة مع المجتمعات التي يرسلون إليها.. إذن لتحسن كثيراً وجه السودان لديهم، فالدبلوماسية أن نكسب الناس بحسن السجايا ونبل الصفات.. وليست نزهة خارجية تنتهي بعودتك لبلادك، والدبلوماسية أن يعكس سلوكك وأنت تمثل بلادك، سلوك أهل بلدك.. قلت مرة لصديقي الدكتور عمر عبد الماجد السفير السوداني الأسبق بالأردن وأنا أزوره بمكتبه «لا يضيرك ولا يأخذ من وقتك كثيراً أن تزور بعد صلاة الجمعة المستشفى الإسلامي وأنت تصلي في المسجد الذي يجاوره، وذلك لزيارة كل المرضى من السودان وغير السودان، ثم ادلف على العمارة الملاحقة للمستشفى ويؤمها السودانيون، وقم بزيارتهم»، لم يكن د. عمر وهو من سفرائنا المعتقين في حاجة إلى قولي ذاك، غير أني قلته من باب التنبيه. وعمر عبد الماجد للذين لا يعرفون عنه الكثير، شاعر فذ كان يتقدمنا في حنتوب وجامعة الخرطوم، وهو صاحب ديوان «تمبكتو القديمة».. وقد أسس مع صديقه الحميم محمد عبد الحي وزملائه محمد المكي إبراهيم والنور عثمان مدرسة الغابة والصحراء، وهو زوج السفيرة زينب محمود دفعتنا في الجامعة، وهي أول سودانية تتقلد منصب السفير.. وكلاهما الآن بالمعاش لهما أزجي التحايا والأشواق. لم تخلُ دعوة إفطار السفير القطري من نفحات الشعر والأدب والأنس الرفيع.. خاصة أن كثيرين من أهل الأدب والعلم والطب يقطنون في ذلك الحي الراقي.. شاركت واستمعت إلى قصائد شعرية ومداخلات أدبية في جو عامر بالمودة.. أضفى عليه سعادة السفير الكثير من اللطف وحسن الضيافة. وهكذا يؤسس أهل قطر لعلاقات أخوية مع أهل بلانا تتفوق كثيراً على علاقات الآخرين معنا، وهي علاقات تقدمت في حين تراجعت كثيراً علاقاتنا مع الأقربين.. وما أصدق الإنجليز إذ يقولون (friend in need is friend indeed) وقد أدهشتني أبيات شعر لشاعرنا الفذ صلاح أحمد إبراهيم في رثائه لصديقه علي المك، إذ يقول: «علي يا صديقي ويا فرجي حين ضيقي ويا صرة زادي تسندني في اغتماض الطريق ويا ركوتي كعكعت في لهاتي إذ جف ريقي». وأنا بدوري أقول لسعادة سفير قطر: يا علي إن دعوتك لنا تشكر عليها.. ولكنك تشكر أكثر وأكثر على طيب عشرتك معنا ببلادنا.. ولك ولبلادك أميراً وحكومة وشعباً.. الامتنان والعرفان الصادق لوقوفكم معنا ومؤازرتكم وعونكم لنا في إرساء السلام ببلادنا وفي تنميتها وازدهارها.