لفت نظري خبرٌ أو تقرير قصير بالصفحة الثالثة لجريدة «الانتباهة» -السبت 3 يوليو- يحمل عنوان «مواطنو الصالحة.. استغاثة متكررة!».. استغاثة أهل الصالحة التي لا تبعد أكثر من «10» دقائق من قلب العاصمة الخرطوم، إذا اعتبرنا جسري النيل الأبيض والفتيحاب «الإنقاذ» يتوسطان العاصمة، هي مثال صارخ وشاخص لغياب التخطيط في عاصمتنا القومية وبالتالي في دولتنا السنية، عاصمة ودولة تعيشان على «رزق اليوم باليوم» كما يقول أهلنا. غياب التخطيط وفقدان البوصلة الهادية، برغم كل ما تضج به قاعات الاجتماعات الكبرى وأجهزة إعلامنا من أخبار المؤتمرات الاستراتيجية والخطط التنموية الخمسية والعشرية والربع قرنية. فكل شيء على امتداد هذا الوطن يحدث ب«الصدفة»، تصدق فتنتج شيئاً عملاقاً «كسد مروي» أو تخيب فتفشل في توصيل أنبوب مياه نظيفة وصالحة للاستخدام الآدمي إلى أقرب أطراف العاصمة الوطنية أم درمان «ضاحية الصالحة».. تصدق فتنتج اتفاقية سلام «كاتفاقية نيفاشا» الناصَّة على جاذبية وأولوية «الوحدة»، وتخيب وتفشل لتجعل سكين «الانفصال» أقرب إلى عنق الوطن من حبل الوريد. فبحسب قصة ذلك الخبر حول «الاستغاثة المتكررة» لأهل الصالحة لجرعة ماء نظيفة، فإن المنطقة -خصوصاً المربعين «1،2» - ظلت تعاني من غياب المياه الصالحة للشرب منذ تأسيسها، وأن المياه المتوفرة، على قلتها، تفسدها الملوحة وتستخدم لأغراض أخرى غير الشرب، ويعيش الناس هناك على المياه المنقولة ب(الكارو)، وما أدراك ما صلاحية مياه الكارو التي تجرها الحمير، ويصل البرميل الواحد من تلك المياه إلى أربعة جنيهات، حيث تحتاج الأسرة لبرميلين على الأقل لأغراض الشرب والطهي والاستحمام والاستخدامات الشخصية الأخرى. مساعي سكان الصالحة للحصول على الماء النظيف هي التي تعكس، بحق وحقيقة، حكاية رزق اليوم باليوم التي تعيشها دولتنا السنية وإدارة عاصمتنا القومية. فبعد أن يئس أهل الصالحة من خير في «اللجان الشعبية» وفقدوا الثقة في إمكانية أن تهب لنجدتهم، ربما لانشغال تلك اللجان بقضايا أخرى -كالسياسة والجبايات- لا صلة لها حتى بمسماها ك«لجان شعبية»، قرروا أن يتوكلوا على الله واختاروا مندوبين من بينهم لمقابلة والي الخرطوم.. لم يتمكنوا من إنجاز المقابلة حتى يسمع الوالي شخصياً قصتهم ويتخذ القرار المناسب ويقدم لهم الحل الناجز، كل ما استطاعوه هو مقابلة مدير مكتبه، الذي قام بدوره بإحالتهم إلى مدير هيئة مياه ولاية الخرطوم، الذي «أمَّن» -مشكوراً- على «ضرورة خدمة المياه للمنطقة» و«التزم» -لاحظ التزم هذه- بسداد «100» ألف جنيه «يعني 100 مليون بالقديم»، لمكتب الصالحة، بغرض توصيل الخدمة، لكنك ربما تكتشف في الجملة اللاحقة أن السيد مدير المياه «جابا للمواطنين في رقبتهم» بحيث «يستقطع» المبلغ لاحقاً من سكان الحي أنفسهم.. يعني بالعربي الفصيح سوف تقوم الهيئة -ممثلة في مديرها- بتسليف المواطنين المبلغ الضروري لتوصيل الخدمة على أن يدفعوها «على داير القرش والمليم»، وكأنه ليس من بين مهام الدولة توفير خدمة أساسية كالمياه النظيفة حتى إلى أحياء العاصمة وضواحيها القريبة كالصالحة. ما يدعو للدهشة هو «الطيبة» التي تعامل معها أهل الصالحة ومواطنوها الطيِّبون مع قرار مدير المياه، فعبَّروا -بحسب القصة الخبرية- عن بالغ سعادتهم بالخطوة، وقال أحدهم لقد «استلمنا قراراً مكتوباً من الهيئة، وأخطَرنا نائب الدائرة باستعداده لتحديد موعد مع المعتمد حتى يضع القرار موضع التنفيذ». تصوَّروا.. فعوضاً عن أن يتصدر نائب الدائرة المحترم الاحتجاج على مثل هذه المعاملة، التي تكلف مواطنيه مزيداً من العنت والجبايات يتبرع السيد النائب بتسهيل «مهمة الجباية» التي تحمل المواطنين كلفة توصيل المياه باستخدام نفوذه لتحديد موعد مع المعتمد بمجرد وصول خطاب المدير لمكتب مياه الصالحة. وكأن المواطنين الذين انتخبوه ممثلاً لهم كانت مشكلتهم «تحديد موعد مع المعتمد» وليس رفع أعباء المعيشة الطاحنة عن كاهلهم وتوفير وتيسير الخدمات الأساسية لهم من صحة وتعليم ومياه شرب نظيفة.. وليت الأمر انتهى عند هذا الحد «وين؟!» يا ريت! فالقصة لم تنته، فذات المواطن يقول: عند وصولنا حاملين الخطاب لمكتب مياه الصالحة، قال لنا مدير المكتب «إن إمداد المياه بسيط ويحتاج لحفر ثلاث آبار لدعم الخط، وإن وضع الإمداد الحالي إذا تم التوصيل للمربعين (1،2) سوف تنقطع المياه عن حي هجليج المجاور»، أما مهندس المشروعات بمكتب الصالحة فقد أبلغهم بأن «توصيل الشبكة يحتاج إلى 23 يوماً» لكنه -بحكم خبرته على ما يبدو- شكَّك في أن «يقوم مدير المياه بتسديد المبلغ المطلوب أو ال100 ألف جنيه»، وإذا ما تم سداده، ويبدو ذلك أيضاً لالتزامات سابقة -«فسوف يكون لإكمال توصيلات مربعي 6 و7» مؤكداً لهم في الوقت ذاته أنه طلب من مدير المياه (68) متراً مكعباً -أظن الرقم الصحيح 680- فأجابه السيد المدير برد قاطع وحاسم «موية مافي»! أليست قصة أهل الصالحة هذه مع المياه الصالحة هي حكاية «رزق اليوم باليوم» في أفظع تجلياتها؟! فقد عاد القوم في النهاية «بخفي حنين» وربما حتى بدونهما، ويذكرك حالهم بمثل العرب «كمبتغي الصيد في عِرِّيسة الأسد» يُقال لمن يطلب الحاجة في غير موضعها.