لا بد أن قراء «الإضاءات» يذكرون العنوان أعلاه في إضاءة الأمس، ولكن مثالنا كان قضية مياه «الصالحة» الضاحية الواقعة جنوبي أم درمان. الصدفة وحدها دفعتنا لمتابعة ذات القضية بنفس العنوان - رزق اليوم باليوم- فقد طالعنا تقريراً حول ذات القضية تتكرر، ربما بتفاصيلها في ضاحية أخرى في الطرف الغربي لمدينة أم درمان، حيث يشكو مواطنو «مربع 5» بدار السلام ليس من شح المياه أو ملوحتها، بل يشكون من انقطاعها الدائم لأسباب عديدة نتعرف عليها من خلال القصة الخبرية أو التقرير الذي نشرته جريدة «أخبار اليوم» أمس «الاثنين» على صفتحها السابعة. فالقصة نموذج آخر ومتكرر لغياب التخطيط وفقدان البوصلة في بلد يدعي أنه يملك خططاً استراتيجية خمسية وعشرية وربع قرنية.. خطط لا تغادر أبداً القاعات المكيفة، حيث تعقد المؤتمرات أو الأضابير والملفات ذات الألوان الزاهية، إلا إلى أجهزة الإعلام المسبحة صباح مساء ب«الإنجازات». دار السلام هي الأخرى كالصالحة لا تبعد أكثر من عشر دقائق من حدود أم درمان القديمة التي تنتهي غرباً عند حي العرضة، حيث جامعة الأحفاد للبنات، ومواطنوها- بحسب التقرير - باتوا اليوم يقفون على بركان من الغضب المتفجر، حيث تعطلت البئر الوحيدة التي يشربون منها، فانطبقت عليهم وعلى دولة الرعاية المفقودة، حذو النعل بالنعل، الأية الكريمة «بئر معطلة وقصر مشيد»، ولكن في حالتنا فالجمع والتعميم أصوب: آبار معطلة وقصور مشيدة، إذا ما شئنا الدقة في وصف الواقع. بئر دار السلام تعطلت منذ وقت طويل، فحولت حياة الناس هناك إلى جحيم لايُطاق، على حد قول الدكتور حافظ عبد الرحمن، الأستاذ بجامعة النيلين وأحد سكان المنطقة. والأمر يعود إلى ما قبل الانتخابات، حيث ظل الناس يعانون من غياب وتقطع الخدمات الأساسية، خاصة المياه والكهرباء. فجاءت الحملة الانتخابية لتنهمر على مسامعهم الوعود الانتخابية التي تستدر وتستجلب أصوات أكثرية المقترعين غير المنشغلين بالسياسة، والذين يهمهم ما يليهم ويخصهم مباشرة وهو الخدمات. وفي هذا يقول د.حافظ: في ذلك الوقت وعدنا المعتمد حسن الجعفري بتوصيل الكهرباء قبل الانتخابات، وطلب من كل أسرة دفع مبلغ مائتي جنيه مقابل توصيل الكهرباء، وبعد أن دفع الناس ما عليهم طلب منهم دفع العوائد «العتب»، ولكن برغم ذلك لم يتم توصيل الكهرباء حتى الآن، وما زالت مجرد أسلاك معلقة في الأعمدة لم يتم تغذيتها بالتيار، أي أنها تنتظر «رزق يومها» الذي لم يحن بعد. ويضيف د.حافظ، الذي كان يتحدث أمام جمع غفير من أهالي المنطقة تجمعوا احتجاجاً وليتفاكروا في ماذا يفعلون، أن المياه معدومة تماماً داخل الحي والأحياء المجاورة، بسبب تعطل البئر «الوحيدة» منذ فترة طويلة ولم تتمكن إدارة المياه من إصلاحها، وأطرف ما في الأمر أن تلك البئر قد تعطلت بعد أسبوع واحد من افتتاح السيد المعتمد لها، وقطعاً في حفل فخيم وسط نداءات التكبير والتهليل، لينطبق عليها ذلك المثل العربي القديم. يعود السبب في تعطل البئر- بحسب إفادة حافظ التي نقلتها الصحيفة- إلى توقف «الكيبل» الذي يغذيها بالكهرباء، كيبل يمكن أن تأتي به الإدارة من سوق السجانة أو أقرب مغلق أو مخزن للهيئة القومية للكهرباء «المحلولة» لتشغيل تلك البئر التي تسقى الحي والأحياء المجاورة. سبب يؤكد منهج «الصدفة» الذي تدار به الأشياء والأعمال في بلادنا، كما أشرنا في «إضاءة» الأمس، صدفة قد تصدق فتفجر أكبر الأعمال والمشروعات، أو تخيب وتفشل لتقصر في تشغيل بئر للماء لا تحتاج إلا ل«كيبل» يمدها بالكهرباء. كانت المياه والكهرباء والتعليم من أولويات مرشح الدائرة في الانتخابات، الذي فاز بأصوات الناخبين، لكنه اختفى ولم يظهر منذ أن «قبضْ قبيضُه وحَمَد سيدُه» ولم يلتق بمواطني الدائرة مرة أخرى، ربما في انتظار «الحملة الانتخابية» مع نهاية الدورة التشريعية الحالية! أما في ما يتصل بقضية التعليم، فمواطنو دار السلام يشتكون، وفقاً ل«أخبار اليوم» من ازدحام التلاميذ في الفصول الدراسية، حيث أبلغ أحدهم الصحيفة أن أكثر من مائة طالب يتكدسون يومياً في الفصل الواحد، وتساءل ذلك المواطن عن الكيفية التي يمكن أن يؤدي بها المعلم مهمته وينجز رسالته داخل فصل به أكثر من مائة طالب؟!. لم يكن أمام هؤلاء المواطنين الطيبين -بحسب الصحيفة- سوى مناشدة الجهات الرسمية، خصوصاً والي ولاية الخرطوم، بالتدخل العاجل لإصلاح حالهم ورفع معاناتهم. بعد أن ثبت لهم بالممارسة والبراهين العملية أن من انتخبوهم لتمثيلهم في الهيئات التشريعية لا يهمهم شيء من قضايا المواطنين الحياتية، وليسوا على استعداد لمتابعة انشغالاتهم عبر تلك المجالس التي انتخبوها ليكونوا رقباء وعيناً لهم على أداء الأجهزة التنفيذية. فغاب التنفيذيون وغاب المشرعون ليصبح كل شيء متروكاً للصدفة والقدر، وليصبح حال هؤلاء البسطاء الطيبين يغني عن سؤالهم، وكان الله في عونهم، مع سياسة «رزق اليوم باليوم»!