درج كثير من الكتاب والمحللين السياسيين إلى استبعاد ما يسمونه ب«نظرية المؤامرة» لدى معالجتهم لأي حدث أوتطور عسكري أو سياسي مهم، حتى غدا عدم الإيمان بنظرية المؤامرة لازمة ثابتة في طروحاتهم و«تسبيحة» تتردد بكرة وأصيلا. بينما حقائق الواقع على الأرض تقول بغير ذلك، فالتآمر والاتفاق على فعل شيء أو الإقدام على عمل قد يصنف في خانة الجريمة، حقيقة من حقائق الوجود في كل العصور وعبر الدهور، وإلا لما كانت الجريمة ولم يكن العدوان والحروب ولما كان الاستعمار والاستيطان، ولما تشكلت أجهزة الأمن لمكافحة التجسس والاختراقات بين الدول والمنظمات وحتى بين الأحزاب في الوطن الواحد.ما استدعى هذه المقدمة هو الحدث الفارق والغريب الذي شهدته منطقة أبيي نهاية الأسبوع الماضي، والنتائج الخطيرة والمخيفة التي ترتبت عليه وأفرزت أسئلة عديدة ومتناسلة بلا انقطاع أو نهاية، في وقت تتحدث فيه جميع الأطراف وفي مقدمتها الطرفان المعنيان والشريكان في اتفاقية السلام «نيفاشا» بأن لا عودة للحرب مهما تكن الأسباب والمبررات. فإذا بنا بين غمضة عين وانتباهتها نجد أنفسنا في حالة انزلاق قسرية إلى ذات الحرب التي نرفضها ونجدد رفضها صباح مساء. فما الذي حدث؟ مساء الخميس الماضي كانت قوة تابعة للجيش السوداني تتكون من 200 جندي، ضمن القوات المشتركة والوحدات المدمجة، تنسحب خارج أبيي في موكب ترافقه قوات الأممالمتحدة تنفيذاً لخطة إعادة الانتشار، تعرض موكبها لكمين من قوة تابعة للشرطة الجنوبية -قيل إنها قوات تابعة للجيش الشعبي ترتدي زي الشرطة- فأدى الكمين إلى مقتل 22 من القوات المنسحبة وفقدان 176 وتدمير ناقلات من الموكب، بينما نجا 3 جنود فقط واعتبرت جل القوة في عداد المفقودين. ü في اليوم الثاني، وكرد فعل مباشر، أعلنت القوات المسلحة أبيي «منطقة حرب» وبدأت حملة عسكرية واسعة استخدم فيها الطيران الحربي والمدفعية طويلة المدى، فبدأ -بحسب إدارية أبيي- تساقط القتلى والجرحى، وبدأت المنطقة تشهد حركة نزوح واسعة باتجاه الجنوب، كما أجلت الأممالمتحدة موظفيها المتمركزين في بلدة أبيي. ü الخارجية السودانية استدعت الممثل الخاص للأمم المتحدة بالسودان هايلي منقريوس وأبلغته احتجاجها رسمياً على «تصرفات الحركة الشعبية والجيش الشعبي». ü الكمين يأتي في وقت يستعد فيه وفد من مجلس الأمن لزيارة السودان -الخرطوم وجوبا- وأبيي منطقة التوتر لمعاينة الموقف على الأرض، تمهيداً للبحث عن مخرج للأزمة العالقة بين الشمال والجنوب حول المنطقة. وقد وصل الوفد بالفعل مساء السبت إلى الخرطوم. ü الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أدان «الكمين» والهجوم الذي استهدف قوة المنطقة الدولية والجيش الشمالي في أبيي، وقال المتحدث باسمه مارتن نيسيركي: إن الأمين العام يدين بشدة الهجوم ويعتبره انتهاكاً خطيراً للاتفاقات بين الأطراف، لكنه ايضاً عمل إجرامي ضد الأممالمتحدة، وطالب بإجراء تحقيق فوري في الهجوم وملاحقة منفذيه أمام القضاء. ü يوم السبت ذاته نقل التلفزيون السوداني عن مصادر القوات المسلحة السودانية أنها «بسطت سيطرتها على منطقة أبيي بعد طرد العدو منها وإحداث خسائر كبيرة وسط صفوفه والاستيلاء على دبابتين وأسر اثنين من جنود العدو». ü يوم الأحد أصدر الرئيس عمر البشير مرسوماً جمهورياً بحل إدارية أبيي وإعفاء رئيس الإدارية ونائبه، وعندما دخلت القوات المسلحة أبيي كان جميع سكانها قد نزحوا جنوب بحر العرب بما في ذلك مسؤولو الإدارية، كما شملت المراسيم الجمهورية إعفاء رؤساء الإدارات الخمس. وعزا مسؤول ملف أبيي الدرديري محمد أحمد إعفاء رئيس الإدارية لما وصفه «بالتجاوزات التي ظل يحدثها عبر استخدام شرطة المنطقة في الأعمال العدائية طوال الفترة الماضية». ü الناطق باسم الجيش الشعبي العقيد فليب أقوير قال -بحسب «الصحافة» أمس- إن الجيش الشعبي ليس له وجود كبير في المنطقة باستثناء «قوة بسيطة» من قواته التابعة للقوات المشتركة، موضحاً أنها لن تستطيع أن تصمد لمدة ثلاثة أيام في مواجهة الهجمات بالطائرات والمدفعية، وأكد أن الجيش الشعبي سحب كل قواته في «المشتركة» قبل ثلاث أيام تحسباً للهجوم المحتمل. هذا هو ما حدث، والتطورات الدرامية التي ترتبت على «الكمين» الذي أرجِّح أنه «مؤامرة» مدبرة لإشعال الحرب وعرقلة أيّة إمكانية لعلاقات سالكة ومتعاونة ومنتجة بين الشمال والجنوب، بعد تنفيذ «المؤامرة الكبرى» المتمثلة في فصل الجنوب عبر الاستفتاء على تقرير المصير، ومن هنا تبدأ الأسئلة وتتناسل: ü من هو الفاعل الحقيقي الذي خطط ونفذ «لجريمة الكمين»، بحسب كلمات بان كي مون؟ ü هل هو «الحركة الشعبية»، كما يعلن المؤتمر الوطني، أم هو بعض من قادتها الذين يخشون أن ينفصل الجنوب وتظل أبيي في الشمال، واستفزهم خطاب الرئيس البشير الأخير في المجلد أثناء انتخابات جنوب كردفان الذي أعلن فيه أن أبيي شمالية وستبقى كذلك إلى الأبد؟ وما هي مصلحة الحركة التي تستعد لبناء دولتها في حرب في مثل هذا الوقت؟ ü أم هل هناك جهات أو جماعات مندسة على الحركة الشعبية لها أجندتها الخاصة، كتلك الجماعات والفصائل المنشقة التي تقاتل الحركة في ولاية الوحدة و واراب، حركت بعض عناصرها لتفجير النزاع القائم أصلاً بين الحركة والمؤتمر الوطني ودينكا انقوك والمسيرية عبر هذا الكمين، حتى تعرقل أية إمكانية لتسوية مقبولة للشريكين -الحركة والوطني- والقبيلتين-دينكا انقوك والمسيرية، وتفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية والدولية من خلال عودة الحرب؟ ü هل يمكن إغفال البعد الدولي في مسألة أبيي الناشئة أصلاً عن قرار إداري بريطاني عام 1905، عندما قرر المستعمرون البريطانيون إلحاق المنطقة بمديرية كردفان لأسباب بعضها لوجستي وبعضها لنزاعات قبلية في منطقة بحر الزراف، وفقاً لرواية شيوخ المسيرية؟ ü قرار الحكومة والمؤتمر الوطني بالرد على «الكمين» من خلال اجتياح المنطقة والسيطرة عليها، هل سيصبح قراراً نهائياً واستراتيجياً بإلحاق أبيي عبر القوة المسلحة بالشمال، أم هو قرار تكتيكي يستهدف تحسين شروط التفاوض بين «الحركة» و«الوطني» من أجل حل سياسي وفاقي في مسألة أبيي وقضايا ما بعد الاستفتاء العالقة والتي يجري التفاوض عليها في أديس أبابا؟ ü في حالة كونه قراراً استراتيجياً بإلحاق أبيي نهائياً بالشمال، ألا يعني ذلك القضاء على فرص قيام دولتين جارتين متعاونتين في الشمال والجنوب، ناهيك عن «الشراكة والتوأمة»، وتأجيل حالة الحرب إن لم يكن استدامتها واستمرار التوتر وعدم الاستقرار في الدولتين إلى ما شاء الله. ü وإذا كان قراراً تكتيكياً، فهل ستستجيب الحكومة لدعوة بعثة الأممالمتحدة «اليونميس» لجميع الأطراف للوقف الفوري للأعمال العدائية، ومطالبتها بانسحاب «جميع القوات غير المصرح بها من المنطقة»، وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار المنصوص عليه في اتفاقية السلام الشامل واتفاقات كادقلي؟ ü كيف سيتم التصرف بإدارية أبيي بعد السيطرة عليها بالقوة المسلحة، هل من خلال «حاكم عسكري»، أم سيتم إعادة تكوين الإدارية مجدداً من خلال تفاهم يتم في مؤسسة الرئاسة، وأي دور يرجى من إدارية يتم تشكيلها ولم يتبقَ من عمر الاتفاقية غير شهر وبعض شهر لاستكمال عملية الفصل القيصرية بين الشمال والجنوب؟ كل هذه الأسئلة، وغيرها كثير لا تتسع له مساحة «الإضاءات»، تؤكد أن «الكمين» الذي نفذ مساء الخميس لم يكن عملاً عسكرياً معتاداً أو مناوشة كتلك التي تقع بين الأطراف، حتى عندما وقعت المعركة الكبيرة وأحرقت أبيي عن بكرة أبيها، إنما هو عمل مقصود ومدبّر «ائتمرت» عليه جهة ما واختارت له التوقيت الحرج، مستفيدة من كل التماطل والتشاكس الذي جرى حول أبيي منذ مفاوضات ميشاكوس ونيفاشا واقتراح المبعوث الأمريكي دانفورث، وما تبعه من مغاضبة حول تقرير الخبراء والخلاف على نتائج التحكيم الدولي في لاهاي الذي لم يجد طريقه للتنفيذ، حتى تبقى أبيي شوكة وجرحاً نازفاً في خاصرة العلاقات الشمالية-الجنوبية. إنها «المؤامرة» التي يمشي إليها الجميع معصوبي الأعين ومغيَّبي البصيرة، والتي من شأنها أن تفتح أبواب السودان على مصارعها للتدخلات الأجنبية بكل شرورها وعقابيلها ومآلاتها التدميرية. عندها سيعض الجميع أصابع الندم.. ولات ساعة مندم!