كان يوماً من أيام بواكير الشتاء حين هبطت بنا الطائرة لوبياً في مدينة أويل، إذ لم تكن الحرب قد وضعت أوزارها بعد، واليوم يوم كرسماس، والمدينة تصطخب رقصاً وغناءً وطبولاً، وفي المساء تمتزج أصوات النقاقير بصوت دانات التأمين، وطلقات المدافع التي نصبت حول المدينة، ونهر اللول ينساب في طرفها الغربي غير آبه بما جد من محن وكروب.. هكذا تمضي بالناس الحياة.. تنبت الأزاهر البرية فوق الألغام، وتغرد العصافير قريباً من منصات الراجمات.. وقد جئنا من شمال كردفان نشارك أهل أويل احتفالهم بالكرسماس كنت وصديقي الراحل د. آدم علي نجيد رقصة الدينكا، والطيب سوار يتعلم من جديد، والوالي محمد الحسن الأمين حرمه الوقار من مرح تلك الليلة الجميلة.. حكومة شمال كردفان تشارك أهل أويل الفرح.. تلك كانت أيام.. وتظل في الذاكرة والوطن ينشطر وتبعد عنا تلك الديار الحبيبة إلى النفوس. تعشقت أرضنا تلك والهمتني حب الجمال.. أتجول في جوبا تجوالي في ودمدني وكسلا.. وأقول في واو مثلما قول خليل فرح في (فتيح والخور والمزالق).. وهانذا اليوم أتمثل بأبيات شعر أحفظها لأستاذي الشاعر الفذ الهادي آدم: (أنا من وجد الجمال بعينيك فأغضى له وصلي وصاما أنا من أخلص الهوى لك حتى نسى الكون هائماً والأناما أنا من ذاب في ورودك طلاً وتهادي بروضها أنساما أترامى على ثراك فراشاً روضة للفراش إذ يترامى بت أهمي على ثراك دموعاً ضاق وجه الثرى بهن سجاما قصة في فصولها كم نعمنا وسبحنا في أفقها أحلاما ما رغبنا لها انقضاء ولكن كتب الدهر للفصول ختاماً) ولست وحدي الذي الهمته تلك الأنحاء البليلة الندية الخضراء، فإلى (أنزارا) يشد الرحال سنوياً الموسيقار الفذ بشير عباس، وهناك يؤلف مقطوعاته العذبة، وهنا كتب الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب أروع قصائده: (أسدي مع النيل أنهاراً ويمسكني بحر الغزال وراء الغاب والرهب يا صاحب الطبل سلسالاً يودعني أودعتك الله مأوى كل مغترب تجفل الوحش من سيارتي عبرت رمبيك فلتنج وحشاً ضائع الذئب تليح درع وحين القرن أسألها عن قرنه الآخر المرموس في الحقب وأسرة الفيل تبغى الماء يقدمها منها كبير أما يخشى من العطب) وهنا بين طلال الجنوب عاش الشاعر الفذ مصطفى سند، وكتب شعراً يبلله الندى، وتحف به الأزاهر من كل لون ومن قصائده التي صاغها هناك مقطع هو عندي بكل ما كتب من شعر سالف ولاحق: (لو زندها أحتمل الندى لكسوت زندها ما يشاء ثوباً من العشب الطري وابرتين من العبير وخيط ماء) ممر الهبوط بمطار جوبا يكاد يخفيه العشب البري الطويل، الذي يقوم بين جانبيه، وكانت رحلة جوبا هي الأولى للشركة التي أقلتنا إلى هناك فعجبت حين هبط الطيار الروسي في ذاك الممر المختفي داخل العشب الطويل.. استقبلنا بالمطار من أقلنا إلى داخل المدينة.. وقد الفيت المدينة وقد غبت عنها عامين في حراك وإزدهار وزحام جديد.. في تلك الرحلة كان في معيتي الشاعر الصديق مختار دفع الله، وهومن الذين يخشون ركوب الطائرات.. قلت أبدد خوفه.. فبدأت أقرأ له بعض قصائدي، ولكن لم يجدِ ذلك فتيلا، إذ ظل العرق يتصبب منه في الطائرة المكيفة حتى هبوطنا. عاصرت بجامعة الخرطوم في منتصف حقبة الستينيات عدداً من أبناء الجنوب، وربطتني بمعظمهم المودة والصداقة، غير أن صداقة حميمة ربطتني بالسفير الراحل أشول دينق، واستمرت تلك الصداقة إلى أن غيبه عنا الموت.. كان نوعاً فريداً في البشر في صفاء النفس والنقاء والوداد.. وعرفت أيضاً السفير شارلس مانيانق الوكيل الحالي لوزارة الشؤون الإنسانية، والذي يتصف بذات الصفات ويتفرد عن سواه بالرقة والهدوء.. كان بطلاً دولياً لكرة السلة في زماننا، تعينه قامة أبناء الدينكا الفارعة، وتحببه إلى مجتمع الجامعة وسامته الفائقة وطبعه النبيل، وحديثي عن شارلس ذكرني (اندريا).. فقد كنت محافظاً في بارا بشمال كردفان واستمعت للعديد من الاهازيج التراثية الشعبية، ومن ضمنها أهزوجة (اندريا) بايقاع الجراري المحبب للناس هناك، والاهزوجة ترددها بذات الايقاع وكوير الرجال اليوم المغنية العذبة نانسي عجاج: (زارعنك في الصديق أندريا بسقيك بلا خريف أندريا لو ما السفر تكليف اندريا من بيتكم ما بقيف اندريا حلاوة القرطاس أندريا يا الفي الخشيم تتماص اندريا لو ما كلام الناس أندريا برحل معاك خماس أندريا) وكتب الكاتب التراثي ابن بارا خالد الشيخ مؤخراً أن (أندريا) شاب من أبناء الدينكا، كان وسيماً حسن الهندام، وقد كان يقود تانكر المياه إلى مناطق حمر ودار حامد بشمال كردفان، والماء هناك هو أكسير الحياة، فألفت فيه الفتيات تلك الأهزوجة، ولعل من الصدف الطريفة أن يؤلف أيضاً أحد أبناء الشمال أهزوجة بعدي جوبا سارت بها الركبان، واشتهرت في عقد الستينيات، والمؤلف هو الشاعر المرح شمس الدين حسن خليفة الذي كان يعمل مفتشاً للصحة بجوبا آنذاك: (سوري لي أنت كفارة لي أنا قلبي معاك يا بابا في حي الجلابة) لمن انتو فوتو أنا بعملو كيف يابابا شوفو حلات بسمتو مالكم ومالو انتو بشكلي منقا ذاتو في سوق باريا شفتو قام أداني نظرة لا من قلبي فرا الزول الحنين ساكن (أطلع برا) وحي الجلابة وحي(أطلع برا) من أحياء جوبا، وقد اشتهرت في الجنوب أهزوجة (سوري لي إنت) هذه شهرة فائقة، والشاعر شمس الدين هو مؤلف (مرحبتين بلدنا حبابة) التي يتغنى بها العطبراوي- وسبق شارلس مانيانق في مجال كرة السلة وندر يوت ديو.. الذي أضحى أيضاً لاعباً دولياً في زماننا بالجامعة، وأبناء الجنوب يتفوقون علينا في كرة السلة بقاماتهم النحيلة الفارعة.. وقد قابلت قبل أعوام خلت شقيق وندر «الشنقيطي بوث» ديو بمكة، وعرفت منه أن وندر بدولة الإمارات.. أنظر بالله للتسامح والألفة التي سادت في زمان سالف بين قادة الجنوب ورصفائهم في الشمال، والتي تصل حد تسمية الأبناء بأسماء بعضهم، ولا نرى اليوم بين القادة الجدد إلا الكيد والبغضاء. نسأل الله العلي القدير وندعوه في صلواتنا وفي صيامنا وقيامنا أن يعيد الجنوب الذي ذهب عنا إلى أبنائنا في الأزمنة القادمة، إنه نعم المولى وإنه على كل كل شيء قدير.. إننا لنحزن وتنفطر بالأسى منا القلوب.. نسأل الله أن يحفظ لنا ما تبقى من بلادنا.. ولأبناء بلادنا الذين اختاروا الانفصال نقول: ( مع السلامة.. لا شكية ولا أسية ولا ملامة لا تباكي ولا تشاكي ولا دراما النوائب فينا تترى وكلو يوم يعظم زحامة والمحن سوتنا مأوى وفي البلد نصبت خيامه كلما نصرف مصيبة واحدة تانية يهب ضرامة والجيوش في بلدنا ترتع ساعيه قالت لي سلامة وهل سلامة خلاص تحقق في انشطاره وانقسامه ولا أطماع واضحة سافرة باينة إلا لمن تعامى كانت الأشجار بتزحف ومانا زرقاء اليمامة كنا في غفلة وبنحلم نبقى في الوطن الموحد إخوة لي يوم القيامة إلا بس التم تم ورغبة يجبرنا احترامه أبقوا عشرة على المودة والعلاقة المستدامة وتبقى بيناتنا الطيور الراحلة والنيل والغمامة والنسائم الهابة من جهة المنابع والقبائل وانسجامة الحدود ما تبقى حيطة نمنع الناس من وئامة مع السلامة مع السلامة)