عند مدينة اويل شمالي بحر الغزال يتعانق نهر (اللول) (ويونكو) في إلتقاء تقصر دون وصفه الحروف.. وهل من قواف تطوي جنان بحر الغزال الوارفة.. يعانق (اللول) رفيق دربه (يوتكو) وينثران الخصب في أرجاء أويل حارة حارة.. ثم يتحدا للانسياب شمالاً ومن خلفها يتدلى الباباي، والمانجو، ويثمر الأرز، وتورق الأزاهر البرية، بألوان قشيبة... هل وقف الشاعر الفذ الجاقريو مثل وقوفي عند ملتقى ذياك النهرين لينشد: الزهور اليانعة في داخل خميلة كشفت عن اكمامه بألوان جميلة جاهد وطرفي ساهر بالدمعة الهميلة من روعة محاسنك يا الدرة الماك عميلة أسباب إرتياحي زهورك بتفهميلة ليكي عفاف مزاملك ولي أسقام زميلة) شهدن تلك الفجاج شبابنا اليافع فألهمتنا الشعر وعلمتنا حب الجمال.. وظللنا في مدارج العمر نعود الى هناك بأجنحة الحنين (والنو ستالجيا)، غير أن عهدي (بأويل) كان قبلأ من عشر سنين خلت، وبجوبا عاصمة جنوب بلادنا(الذي كان) قبل عامين تبدل فيهما حالها واكتظت بأكثر من سعتها بعربات الأممالمتحدة والوفود من كل فج عميق، وشاء زماننا أن نشهد عهد الانفصال وتراجع خارطة الوطن شمالاً برسمها البديع الذي ألفناه وحفظناه، لتغدو مبتورة الساقين كثيرة التعرج أشبه ما تكون بخرائط دول اوروبا، التي تزدحم بها تلك القارة الصغيرة، وقد كانت بلادنا الرحبة تماثل في سعتها أكثر من خمس من دولها.. ذهب جنوب السودان ولم يكن ذهابه مباغتة، فقد كانت إشارات الانفصال تبرق منذ زمان بعيد تؤجج أوارها القوى الخارجية، وتؤخر ضرامها العهود الحكومية التي تعاقبت علي البلاد، ولم تكن نيفاشا سوى محطة في آخر الطريق وقف عندها قطار الوعود القديمة التي وعد بها الشمال أهل الجنوب، وإن ذهب الكثيرون الى القول إن الشماليين لم يحسنوا بل أخفقوا في العمل على صهر واستيعاب التنوع العرقي، والتباين الإثني، فهم بهذا الفهم يقللون من أثر التدخل الخارجي، الذي ظل يلتهم كل جهد قومي، لا توحد ولا انصهار، إلتهام النار للهشيم، وكم كان استاذنا الراحل الهادي صادقاً إذ يقول: (توريت ذاك هو العدو فهمتي أولم تفهمي جم الوجوه وإن أتاك بوجهه المتبسم فهو الذي أدمي يديك بكل قيد أدهم أنسيت مذبحة النوير ورميهم بالمكسم من طوقوك بكل جيش كالجراد عرمرم أهم الشماليون هل كانوا هناك تكلمي توريت إن غداً لناظره قريب المقدم فستعرفين وتندمين ولات ساعة مندم اليوم ينقسم الناس، وقد ذهب الجنوب لطائفة تذرف الدموع على ضياع جزء عزيز من بلادنا، وأخرى ترى أن ما تم والتحدي الماثل أمام أهل السودان العض بالنواجذ للحفاظ على ماتبقي من البلاد، حتى لا يتشظى الوطن فالسعي الحثيث لإسكات المدافع التي تهدد هنا وهناك، واجب تحتمه الوطنية، وتوجبه روح المسؤوية، فماذا نقول للأجيال القادمة من أحفادنا إن أخفقنا في صون الوطن، وإن شبوا ليجدوا المليون ميل مربع تناقصت/لتوازي في مساحتها هولندا، يحزن أهل بلادي لانفصال الجنوب، والحزن أنبل شعور إنساني للتعبيرعن ما يجيش في الانفس من أسف وحسر، وقد لا تفيد الاحزان فتيلاً غير أنها أقل ما يمنع في مثل هذه المواقف العظيمة، فالحزن على ضياع الجنوب هو القاعدة للذي يرى بعين البصيرة والفرح الاستثناء، ولعل اكثر الناس اليوم حزناً هم الزملاء في السلك الإداري القديم الذين عملوا ضباطا ًومفتشين ومحافظين في مجالس ومديريات الجنوب القديمة، فذكرياتهم لايطفئ جمرها تقادم الزمان ولا إنشراح العمر.. وقد كان كشفهم الموحد ينقل الإداريين الجنوبيين الي مجالس الشمال أوالجنوب، والشماليين أيضاً الى الجنوب، ومجالس السودان الأخرى دون أن يفرق بينهم، وكان في ذاك تمتين لعري الوحدة والانصهار، ولابد لي أن اشهد وقد جاء ذكري زملائي من ضباط المجالس أن النخبة التي تفرقت على مجالس الجنوب في زماننا من أبناء الشمال والجنوب أدت عملها بمهنية وكفاءة، قل أن يجود بها زمان الخدمة المدنية في السودان مرة أخرى، فقد كان ضابط المجلس يمثل الحكومة في تلك الفجاج البعيدة، وله سلطات إدارية واسعة، وسلطات قضائية في المناطق التي لا يوجد بها قضاة، وكنا نعطل في كثير من القضايا القضاء الحديث، ونحيل الأمر لمحاكم السلاطين للفصل بالعرف.. فاقصى عقوبات عرفية في ذاك الزمان كانت لا تتعدى الخمسة جنيهات، وهي أقل بكثير من عقوبات القضاء الحديث... كان المحافظ في بحر الغزال عصرئذ الإداري الفذ كرم الله العوض، وأذكر من تلك النخبة محمود بابا براجا، ومحمد عبده عثمان، والشيخ الخليفة، ومجذوب طلحة بطمبرة، وعثمان الطاهر، وسليمان المنير، بواو وعبد الرحمن قيلي بجوبا، وحسين الطاهر عبد الحفيظ(بترول) وقد تزاملنا مرة أخرى بالفاو، فارسينا بالمشروع الوليد الخدمات الأساسية من مدارس ومراكز صحية ومستشفيات، ومراكز الشرطة، والمحاكم ولحسين الطاهر أحفظ الفضل في تعليمنا الكثير من فن الإدارة واتخاذ القرارات، ذهب زماننا ذاك على عجل مثلما يذهب الغمام وتذهب النيازك، فلا سبيل الآن ميسراً لوقفة أخرى على شواطئ اللول، ولا الجور ولا الزراف، ولكن نقول ما قال شاعرنا المجذوب وقد الهمه الجنوب ما ألمهه من شعر مبلل بالندى: (أأندم لم يندم صباح عشقته شجاعاً يرد الموت حيث يكون أخالط نهر الجور يسقى سألته أيعرض عني إلفة ويخون تعالج شيئاً في يديها تلفه ويفقر ثغر حافل وجبين وجالسنا ظل من الغاب أصفر وطبل خضيب الساعدين بطين سكونك يا اختاه فالليل مقبل وفي الغاب سعي هامس وسكون هو الغاب كم أهواه عدلاً وحكمة ولكنني رهن الشمال سجين) ذهب ذاك الزمان وأن أنسى لا أنسى وقوع زميلنا القادم من شمال السودان البعيد في حب حسناء من فتيات الدينكا، فرتب أمره ترتيباً دقيقاً.. أربعين بقرة وثور ثلثها من مدخراته، وما تبقى بالدين الآجل وأرتد(لاوو) من جلد فهد، وفي يده الحرية، وثوره يتقدمه، وهو ينشد في دينكاوية سليمة قصيدته في ثوره، وكان موكبنا ذاك إلى أهل الفتاة للخطوبة موكباً يجسد انصهار أهل بلادنا باختلاف أعراقهم، ولم تكن الكاميرات الحديثة قد وصلت إلى هناك، فلم نوثق إلا في ذاكرتنا مسيرتنا في ذاك اليوم، لطلب الفتاة من أهلها... ما الذي يفرق شعباً مثل شعبنا- الفريد اليوم- أيدي سبأ بالله عليك، وإلى إخوتنا في دولتهم الجديدة نقول بعد المباركة والأمنيات بالتوفيق: (خلو البينا عامرة والمودة أساسه والخوة الصحي إيانا دائماً ناسه والدولة الجديدة منو البمتن ساسه غير أهل الشمال ومنو البقيف في راسه ما قالوا الحدود حيطة بتسد الخوة وما قالوا الوداد بتزيلو سلطة وقوة أخوان الشمال هم البردمو الهوة وأول مستجيب لو قلتو ياابو مروة). مع تحياتي