في أخريات عام 2005م وقبل أن يجف مداد اتفاقية نيفاشا للسلام، فوجيء الرأي العام المحلي والقومي بالاهتمام بمنطقة دارفور في أجندة المنظمات الدولية وواجهات الاستعمار الغربي الجديد، باعتبارها بزعمهم.. أخطر ملفات الصراع في العصر الحديث، وسط دهشة أهل السودان جميعاً. فقد ظل أهل دارفور أساتذة في (الجودية) وأساليب فض النزاعات صغرت أم كبرت. كانت القرية في دارفور لا تعرف إلا الشيخ آمراً وناهياً وداعياً إلى الخير. إن دارفور كانت حتى قبيل الأحداث التي أفسدتها مؤخراً، لا تستخدم الشرطة إلا في المدن الرئيسية ومراكز السلطة التنفيذية، فضلاً عن القوات النظامية الأخرى، وأجزم أن معظم من قضى نحبه من أهلنا في دارفور قبل الصراع الأخير، لم يبصروا بأم أعينهم جندياً نظامياً مدججاً بالسلاح، فقد كان الرجل يجوب الديار والفيافي ليلاً ونهاراً يتأبط عصاه، نعم عصاه فقط لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه!!. إن الحياة في دارفور كانت جماعية تعاف الفردية والانعزال، حياة بين (النفير) و(الفزع). فهم ينفرون لأعمال الخير جميعاً.. يجتمع أهل القرية اليوم لتشييد منزل أسرة فلان مثلاً، ثم يلتقون غداً لغرس أو حصاد مزرعة فلان، وبعده لعمل آخر ليس على صاحب العمل المضيف غير بذل الطعام والشراب.. والناس في صفاء وإخلاص وتعاون لا يكدره شيء. أما الفزع فهو التناصر والتعاضد والخروج لرد العدوان وكف الشرور عن القرية، ومحاصرة اللصوص ورد المنهوب من المال أو السعيَّة. نظام السوق في دارفور يسمى (أم دورور)، بمعنى أن لكل منطقة يوماً محدداً للتسوق.. (يوم السوق) يؤمه التجار والأهالي من كل حدب وصوب.. يوم السوق مناسبة لتصريف المحاصيل وبيع البهائم وقضاء الحاجات ورد الديون وخلافه. إن يوم السوق مناسبة اجتماعية لتبادل الدعوات تساكناً وتصاهراً وصداقة. لقد كانت تقابة القرآن إحدى معالم الحياة الرئيسية من دارفور، ميراثاً تليداً توارثه الأبناء عن الآباء كابراً عن كابر، مدارسة وحفظاً ومرجعاً يهدي الناس سبل الرشاد.. لم يكتفِ الحيران وطلاب القرآن من أبناء دارفور بخلاوى المنطقة فقط على كثرتها وانتشارها، ولكنهم هاجروا إلى أنحاء السودان كافة، شيوخاً وطلاباً له، أذهب أنى شئت من مظان تعليم القرآن ودوره في وسط السودان أو شرقه أو شماله، تجد أن السواد الأعظم من طلابها وحيرانها من دارفور. إن سلاطين دارفور وقادتها الأماجد كانوا قد أثبتوا في تاريخ السودان صحائف من نور في تنظيم المحمل الشريف الذي يخرج في كل عام لأرض الحجاز كأكبر قافلة من نوعها في التاريخ، توفر الزاد والمؤونة لحجاج بيت الله الحرام وفقراء أرض الحجاز، كما أن مملكة دارفور الإسلامية كانت تحتكر كسوة الكعبة الشريفة في كل عام، بل إن السلطان علي دينار قد أوقف باسمه واسم أهله في دارفور أهم مورد للمياه لخدمة حجاج بيت الله الحرام عند الميقات المكاني للحرمين في المدينةالمنورة، يعرف حتى اليوم بآبار علي. إن الألم يعتصر القلب، والحسرة تأكل النفس وتمزق الأحشاء.. ويكاد المرء ييأس من مخرج صدق في ظل الركام والظلام الذي حط على أرض دارفور مع تطاول الأزمة وتعقد السبل، ولكن لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، فجهود المخلصين متصلة، ودعاء الصالحين لن ينقطع، وأنفاس التاريخ وعبقه تملأ الأرجاء.. والشيطان لا محالة خاسيء وخاسر.. والعدو محاصر ومنكسر أمام جهود الوسطاء هذه الأيام بالدوحة، آملين أن تكون وثيقة السلام محل اتفاق الجميع وبداية النهاية للصراع الذي تطاول بدارفور. اليوم تقنا لعز فرّ من يدنا فهل يعود لنا ماضٍ نناجيه؟ بالدين والعلم والأخلاق مجدكم هذا البناء الذي يعلو ببانيه