في مطار الخرطوم – حوالي الساعة الواحدة صباح يوم 25 مارس 2012, و انا في طريقي الي كينيا, فوجئت بالاعداد الغفيرة من الناس الذين ظننتهم من المسافرين. كانت الساحة امام صالة المغادرة محتلة بكاملها و مكتظة بمئات الاشخاص حتي أني شككت أن العميان شايل الكسيح. حينها سألت نفسي و غالطتها: هل هو موسم الحج؟ خاصة و أن معظم المتجمهرين كانوا من شاكلة اهل دار صباح الذين هم مشهورين بأشواقهم وحنينهم تجاه بلاد الاعراب في الحجاز و نجد و صحراء الربع الخالي و خميس مشيط؟ أم أن أحد الأمبتارة قد كان موجودا داخل صالة المغادرة؟ أم أنهم الجليجلي و الأمبليواتية قد اختاروا من مطار الخرطوم خلوة لهم يقصدها المريدون؟ و لولا أني أعلم أن زريبة البرعي ما زالت في كردفان و أنها لم ترحل بعد, لأيقنت جازما أنها الحولية السنوية عينها. تبادرت لي تلك التساؤلات و ليس غيرها للتشابه الجوهري بين ما كان يفعله المتجمهرون و أنشطة اصحاب الكرامات و الفكية القونية اصحاب الصنجينجات. كانوا حجيجا من ناس دار صباح قد تخلوا عن دنيتهم التي يظنونها فانية و قصدوا البيت الحرام في الحجاز الذي ما أنفكوا يعتقدونه أرض أجدادهم من عرب مستعربة و عاربة. كانوا في حالة بكاء دائم, تصحبه الهيستيريا و الهوام. كانوا يتعانقون بكاءا, و منهم من كان مستلقيا علي الارض, عفوا علي الزلط في سبات اشبه بالعميق. سألت احدهم قائلا له: اني اعلم جيدا أن حال السودان يجبر علي الحزن, و اعلم أن شعوبا بعينها, مثلنا في دارفور قد استهدفت و تعرضت للتقتيل و التشريد و جميع الانتهاكات الجثيمة لحقوق الانسان بما في ذلك الجرائم ضد النساء و الاطفال, و لكن: هل أنتم استدركتم الاوضاع السيئة فجأة فبكيتم؟ ام ان حلا قد أستبان لكم فجعلكم فرحين تبكون؟ بهت كفرا حين رد علي قائلا: هي مصيبة أكبر من كدة!! أنت ما عارف؟ معقول في سوداني ما عارف أنو نقد سكرتير الحزب الشيوعي قد توفي؟ ثم سألني قائلا: أنت ما سوداني يا زول و لا شنو؟؟ كان ذلك المؤمن في أتم أستعداده ليعلن الجهاد ضدي. كما أنه كان في غاية الاستعداد لتقديم نفسه قربانا من اجل حبره الاعلي الذي حسبوه قد صعد الي ربه في رحلة اختفاءه قبل الاخير. حينها استرجعت وتذكرت أسئلة ناس دار صباح التي يوجهونها لكل ابناء المهمشين و بالأخص لنا نحن ابناء دارفور, اسئلتهم التي من شاكلة: معقول ما بتعرف ام كلثوم؟ دي سيدة الغناء العربي ياخ!! ما بتعرف وردي؟؟ فنان افريقيا الاول؟!؟! و اسئلة اخري تصدر عن خطاب اللاوعي و اللامعرفة و التجهيل الممنهج, تلك الاسئلة التي تأتي منهم و هم لا يستطيعون ان ينظروا للحاضر و المستقبل الا بعيون الموتي. ادركت جيدا أني أقف امام احد الحواريين الذين ينشدون سلفهم الصالح, الحواريين اصحاب الرؤوس المصمطة التي ليس لها مدخل من بين يديها و لا من خلفها و لا من كل الجهات. تلك الرؤوس التي اضحت من بين اشياء اخري, لا تصلح ألا للف العمامة و الطاقية في وضعية (فكي شاف لحم). الرؤوس التي أختارت طوعا أن تسير ضد مسيرة الزمن و التاريخ, فتقوقعت في مقولات السابقين, و قبلت لنفسها أن تلعب دور التابعين المؤمنين, فألغت عقلها و أكتفت بدور رواة الحديث. تجولت وسط تجمهر الحواريين, فرأيت رجالا و نساءا من ناس دار صباح كانوا يبكون و ينوحون في هستيريا جنونية, فعرفت أن الجلابة عندهم شخص قد مات. ذلك المشهد استرجعني قليلا فذكرني: الدمبارة و هم يسوقون الجراد ألي حيث شاؤوا, كما أعادني الي ذكريات الطفولة يوم أن كنت أحد المهاجرية و كيف كنا نصوت العصيدة للفكي الذي بدوره كان يزعم أنه قادرا علي حلحلة كل المصائب و الكرب, و كيف انه اشفي كثيرا من الناس من المرض و أصاب أخرين. ايضا تذكرت ذلك الموقف عندما كنا أنا ووالدي ذاهبين من منطقة ام دافوق الي منطقة بحر مامون التي تقع في جمهورية افريقيا الوسطي, فقابلنا مجموعة من الرجال كانوا مثلنا مسافرين علي أرجلهم لكنهم متجهين نحو دار صباح. حينها قلت لوالدي أن هؤلاء الرجال هم اما قلاجة أو مندانجة يطاردون أسواق ام دورور. رد علي قائلا: ليس كل المدردم ليمون. و لما كان والدي يعرف بعضهم فسألهم الي اين هم ذاهبون!! اجابوا أن شيخا قاطعا قد توفي في دار صباح, و أنهم ملزمون بأداء فريضة الحضور و التبرك عند ضريحه.!!! ضحكت كثيرا حتي القهقهة عندما قال لي والدي وكان يشير اليهم بأصبعه: ناسك ديل السنة زراعتهم خسرت. بعد ان استرجعت تلك المشاهد الماضية, نظرت الي الوجوه المتجمهرة جيدا, ثم أرجعت البصر كرتين, فأذا بها نفس الوجوه التي أقامت عرس الشهيد عندما كان الجلابة يحاربون أولاد و بنات بنج, و هي نفس وجوه أنصار الله و المهدي, و أتباع الختمية, و جيش حفاة السلفيين, و أتباع طالبان, و احزاب الجلابة في السودان, و الاخوان المسلمين, و أتباع جماعة بوكو حرام, و جماعات التابعين الذين أن هم حضروا غابت العقول والمعرفة وسيطرت الاساطير و الخرافة. أنهم رهط جميع الذين تربطهم علاقات المؤمنين الموحدين الذين أختاروا الخطاب الماورائي ذات الطابع الاستبدادي من حيث أن القائد هو الحق المطلق و علي التابعين أن يفعلوا ما يؤمرون. كنت اسأل نفسي: لماذا لم يتجمهروا او يتذمروا عندما عاني شعبنا الدارفوري الذي مازال تحت ألة القمع و الاستبداد؟ و لكني أستدركت أن أم الكلب بعشوم, و تذكرت الموقف الجمعي للجلابة و تصوراتهم تجاهنا كأبناء دارفور, فواصلت المسير. في تلك اللحظة رأيت احد ابناءنا من دارفور, فسألته قائلا: يا مان أنت الجابك بجاي شنو؟ الناس الأنا شايفهم ديل ناس دار صباح, ولا أنت اتزوجت منهم برضو؟ لم يستطع الرد, و أستمر جاهشا في البكاء. قلت له مودعا: (لصيق طين في رجلين ولا ببقي لزول نعلين) ختام قولي:( نمر جقجقو فوق رجال قهر, تور أم سقدو ألبمعط الشدر) أنقابو – دارفور 8 ابريل 2012