كلنا يذكر ما جرى في أبوجا عندما كانت نيجيريا مستقرة وتتصدر جهود الاتحاد الأفريقي لحل أزمة دارفور. مفاوضات أبوجا أيضاً حضرها إلى جانب الاتحاد الأفريقي الجامعة العربية والمجتمع الدولي تتصدره الولاياتالمتحدة التي لعبت الدور الأساسي من خلال ممثلها روبرت زوليك- رئيس البنك الدولي حالياً- والأهم من ذلك شاركت جميع الحركات المسلحة الرئيسية، حركة تحرير السودان بجناحيها- مني أركو ميناوي وعبد الواحد محمد نور- وحركة العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم وحركة الإصلاح بقيادة د.مادبو، وتم إبرام اتفاقية السلام التي لم يقبل التوقيع عليها إلا حركة ميناوي وبضغط مكثف من المبعوث الأمريكي زوليك وممثل الحكومة حينها المرحوم مجذوب الخليفة. بعد التوقيع طارت الحكومة فرحاً بم تم إنجازه، وأصبحت عبارة أن «قطار سلام دارفور قد انطلق ومن شاء فليلحق به في المحطة القادمة» هي العبارة الأثيرة والراتبة، وقالت الحكومة، وشاركتها في ذلك حركة ميناوي، إن أبوجا هي آخر مفاوضات للسلام، وإنها غير قابلة للمراجعة أو أن تفتح للتفاوض من جديد، وظلت الحكومة والحركة على ذلك الموقف دهراً:«لا لفتح أبوجا». لكن تطورات الوضع في دارفور وصعود حركة العدل والمساواة كأهم لاعب في ميدان الحرب اضطر الحكومة للتراجع تدريجياً عن ذلك القسم المغلظ بعدم «فتح أبوجا»، واتخذ الموقِّع الرئيس عليها «ميناوي» مقعده في القصر كبيراً لمساعدي الرئيس ورئيساً للإدارة الانتقالية لدارفور. ومرت الأيام دون أن نرى «طحناً» أو خبزاً لتلك الجعجعة التي صاحبت توقيع أبوجا، حتى غزت حركة العدل والمساواة بقيادة خليل أم درمان انطلاقاً من الحدود التشادية والليبية في مايو 2008م، عندها أدركت الحكومة ضرورة البحث عن طريق آخر، فكثفت جهودها مع الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية التي أوكلت الملف الدارفوري إلى قطر التي أبدت استعدادها للاطلاع بالمهمة، خصوصاً بعد تبرم ميناوي من مستوى التنفيذ وعدم الالتزام بمقررات أبوجا، حتى انتهى للعودة إلى التمرد من جديد. كانت الحركة المعنية والمقصودة والتي افتتحت مفاوضات الدوحة هي حركة العدل والمساواة التي وقعت في عام 2009م الاتفاق الإطاري، القاضي بوقف إطلاق النار وإطلاق سراح أسري كل من الحكومة والعدل والمساواة لدى الآخر، لكن ذلك الاتفاق ، خصوصاً في قضية أسرى الحركة الذين كانوا لايزالون يواجهون المحاكمات في الخرطوم بعد اشتراكهم في غزوة أم درمان، لم يجد طريقه للتنفيذ الفوري برغم أن حركة العدل والمساواة قد أطلقت دفعات متتالية من أسرى الحكومة لديها، واضطرت الحركة في النهاية للتخلي عن الاتفاق، وإن لم تغلق الباب أمام الدوحة. بعدها فكر الوسطاء والحكومة في ضرورة توحيد الحركات وتجميع أكبر قدر من المنشقين عن حركاتهم فتم إنشاء «حركة التحرير والعدالة» على عجل وأوكلت رئاستها للدكتور التجاني السيسي، وواصلت الدوحة جهودها التفاوضية واستضافة الوفود والمشاركين الآخرين من نشطاء المجتمع المدني الدارفوري والنازحين وممثلي المهاجرين على مدى عامين كاملين، وتكفلت مشكورة بكل أعباء الاستضافة الطويلة والثقيلة، حتى انتهى الأمر إلى صياغة «وثيقة الدوحة» التي عرضت على «مؤتمر أصحاب المصلحة»، والتي كما قال الوسيط القطري وزير الدولة للخارجية أحمد بن عبد الله آل محمود قد لقيت إجماعاً من كل الأطياف التي حضرت المؤتمر، وإن الوثيقة مطروحة للحركات المسلحة وكل الفرقاء الفاعلين في أزمة دارفور للتوقيع عليها. أما تصريحات المسؤولين السودانيين وفي مقدمتهم د. نافع علي نافع الذي طار إلى الدوحة في صحبة غازي صلاح الدين ود. أمين حسن عمر لحضور مؤتمر الدوحة، الذي شاركت فيه بعض أقطاب المعارضة وبينهم د. حسن الترابي زعيم الشعبي ومحمد إبراهيم نقد السكرتير السياسي للحزب الشيوعي السوداني،فقد أعطت الحركات المسلحة ثلاثة شهور للتوقيع على وثيقة الدوحة إذا أرادوا الالتحاق «بمشروع السلام»وليس«قطاره» كما كان الحال مع اتفاقية أبوجا، فلم يخرج من الدوحة قطار للصعود إليه أو النزول منه. فلا يمكن لمراقب متابع وحذر أن يتصور أن الحركات الرئيسية والمقاتلة في دارفور يمكن أن تلتحق بمثل هذا «المشروع» الذي حملته«وثيقة الدوحة»، مهما قيل عن سداد أو عدالة الأفكار التي ينطوي عليها هذا المشروع، فهذه الحركات الرئيسية شارك بعضها في التفاوض، كالعدل والمساواة التي أبدت العديد من التحفظات والملاحظات على الوثيقة، وبعضها امتنع عن المشاركة منذ مراحل التفاوض الأولى، كجناحي حركة تحرير السودان ميناوي وعبد الواحد، وجميع هذه الحركات تنطلق من رؤية مناقضة «للمدخل والمفهوم» الذي انطلقت منه مفاوضات الدوحة بشأن دارفور، هذه الحركات ترى أن أزمة دارفور هي جزء من أزمة الحكم في السودان، وتريد الإجابة أولاً على الكيفية التي يُدار بها السودان وتُدار به دارفور كجزء منه، فهي تتحدث عن «أزمة السودان في دارفور» وليس عن «أزمة دارفور في السودان»، هي - بوضوح- تريد استبدال الحكم القائم- حكم الإنقاذ- بدولة مدنية ديمقراطية فيدرالية موحدة، كمدخل ومفهوم لحل شامل لأزمة الحكم في السودان، وترى أن ذلك سيقود بالضرورة إلى إنهاء الأزمات والاحتقانات ليس في دارفور وحدها إنما في كل أقاليم السودان التي تشكو أزمات متنوعة على اختلاف درجاتها حدة أو انخفاضاً. المهم، وبرغم الاحتفاء والمهرجان الذي أطلقت فيه «وثيقة الدوحة» وبرغم وجاهة العديد من بنودها ومقترحاتها، تظل هذه الوثيقة «مشروعاً للحل» وليس «الحل» ذاته ، فلا أحد كان يتوقع أن تنتهي مفاوضات استمرت عامين متواصلين إلى مجرد «حزمة مقترحات»، رأى الوسطاء والفرقاء المفاوضون إنها تصلح لأن تكون «أساساً للحل»، فما لهذا تعقد المفاوضات أصلاً- المفاوضات- تعقد عادة بين فرقاء متنازعين أو متحاربين للوصول إلى «حل» متكامل بالتزاماته السياسية والقانونية وآليات تنفيذه، أما ما توصلت إليه مفاوضات الدوحة خلال عامين من التفاوض كان يمكن إنجازه عبر «ورشة عمل» واحدة للخبراء والناشطين خلال أسبوع واحد، توفيراً للجهد والوقت، ومن ثم تقديمها للفرقاء المعنيين للتفاوض عليها من أجل الوصول إلى «حل»!