*عندما مات جعفر نميري أسرعنا الى المنزل- منزله أو حقاً منزل الأسرة الذي يقيم فيه، وأدهش الذين معي بعد أن قطعنا اجتماعنا لنسارع إلى منزل العزاء-أدهشهم.. طراز الأساس المتواضع في ديوان المنزل.. وكراسي الحديد البسيطة من طراز الستينات.. ومظهر البساطة والتواضع شأنه شأن كل منازل أهلنا العادية في ود نوباوي.. كان المنظر كافياً لقطع ألسنة الكثيرين عن نزاهة وتجرد الرجل وتعففه عن مال الدولة، بل وإنفاقة من مرتبه المحدود على كثير من الأرامل والأرحام.. والأقارب رقيقي الحال.. عرفت جعفر نميري سنوات طويلة وهو بعد برتبة الرائد.. وصبيحة الانقلاب وكنت ضابطاً برتبة الملازم أول.. جاء إليّ صديقي وزميلي الأستاذ أحمد دياب المحامي فجراً وصحاني من النوم قائلاً: قوم صاحبك نميري عمل انقلاب.. فقلت له.. لا صاحبي ولا بعرفه.. ولا دعوة لي بالموضوع، ..فأنا بطبيعتي أكره الإنقلابات والذين يقومون بها ولم تمضِ ثماني واربعون ساعة.. إلا وجاء إلي من عرض التعاون مع الانقلاب الجديد.. واعتذرت ضاحكاً وقائلاً- بلباقة كده أحسن أن أكون صديقاً برتبتي هذه خير من أن أقفز بالزانة التي سرعان ما أنزلقت بالذين قفزوا بها، فخسروا أنفسهم.. ولم يكسبوا إحترام الآخرين فأنا أيضاً أكره الزانة وكل المصنوعات الخشبية، إذا كانت تسعى إلى هضم وسلب حق الآخرين، والقصة تطول مع عروض أخرى مرفوضة من جانبي، مايزال كل شهودها أحياء- وخاصة عند قيام التنظيم السياسي الذي كنت أرى بأم عيني بوادر سقوطه.. أما عندما ضرب النظام الجزيرة ابا- فقد تقدمت باستقالتي من جهاز الشرطة ومن وزارة الداخلية ورفعت الاستقالة إلى قائدي الرجل الشجاع الأمين السيد العقيد عبد الوهاب ابراهيم الفريق الآن ورئيس جهاز الأمن ووزير الداخلية اللامع والبارز والمهاب- بعد ذلك فقد رفع الاستقالة الى وزيرالداخلية، في وقت لم يكن يجرؤ ضابط أياً كان أن يكتب استقالته أو أن يتبنى قائده رفعها.. رفضت الاستقالة وبقيت في قلبي مرارة لاستشهاد الامام المهدي، وانفطر قلبي حزناً على ضرب الأنصار.. واستشراء البيارق الحمراء التي استوزر بعض حملتها في كل العهود.. ولكن رغم ذلك بقي كثير من روح الماضي بيني وبين القائد الراحل جعفر نميري الانصاري-جذوراً ومعتقداً- ورغم البون الشاسع بين قناعاتي ومايو والسلطة التي تصنعها البندقية.. رغم كل ذلك كنت أعرف لجعفر نميري كثيراً من الفضائل والمواقف الإنسانية التي تبكي الصخر وكنت أعرف أنه ابن بلد أصيل ينبض قلبه بالحب والوفاء وكان شديد العطف في أحلك الظروف مع كثيرين من الذين ساقهم القدر أن يقفوا ببابه في الليالي المدلهمة.. وكنت دائماً في علاقتي معه أفرق بين المواقف السياسية- والجوانب الإنسانية.. وقد أحزنني رحيله جداً.. فلم يتغير أب عاج حتي في أحلك الظروف والمواقف رحمه الله ورحمنا جميعاً، فنحن هكذا أبناء هذا الوطن الحنون المتسامح-السودان.