تتوالى رسالاتُ ربِّ العباد إلى العباد هداةَ نور وحُداةَ مسير. تنهل البشريةُ من فيض معينها، وتستنشقُ عبير نشرها. هي سماتٌ لنماذج قادة كرام يضعون على المسالك والدروب مشاعلَ القيم والفضيلة. هذا يوسف بن يعقوب عليه السلام وقد انفردت قصته بكمالها في سورة مكِّيةٍ واحدة جمعت الأحداث مفصلة بناءً على طلب اليهود في المدينة وهم يختبرون محمداً صلى الله عليه وسلم مع علمهم بعدم درايته بها. لقد جاءت القصة مطابقة لما ورد عندهم في التوراة مع إضافات قليلة كما أورد القرطبي. يوسف عليه السلام منارةٌ من منارات طريقنا عبر رحلاتنا هذه. له من الإخوة أحد عشر، ستةٌ منهم من لِيَّا بيت لِيَّان، وأربعة من ما ملكت يمين يعقوب، أما يوسف فهو من راحيل أخت لِيَّا التي توفيت عند وضعها لآخر الإخوة بنيامين. عاش يوسف مطلع عمره مع عمته التي أحبَّته كثيراً، وعندما أراد أبوه استرداده صَعُبَ عليها الأمرُ، فالتمست حيلة للاحتفاظ به ووضعت المِنْطَقة التي ورثتها من أبيها إسحق تحت قميصه، وعندما انتقل إلى بيت أبيه أعلنت اختفاء المِنْطَقة واتهمت يوسف بسرقتها. عاد عليه السلام إلى عمته لأن قانونهم كان يقضي بتمليك السارق إلى صاحب المسروق. وتمر الأيام وهي تروي جذور الصبي بماء السماء المبارك من ربه، وتروي لنا قصةً نادرة من قصص الإعداد الذي يرقي بالإنسان إلى مدارج النقاء الصالحة لاستيعاب سمات القدوة. دخل آل يعقوب في خضم تجارب اختبارية، فابتُلِيَ يعقوب بفقد يوسف، وإخوةُ يوسف بوساوس الشيطان، ويوسفُ بفراق أهله، وكل ذلك تحت عنوان (لله في خلقه شؤون)، ومن هذه الشؤون أن تستقر رحال يوسف عليه السلام عند عزيز مصر، حيث بدأت قصة التمكين التي لم تخلُ من البلاء هي الأخرى، فقد سوَّل الشيطان لامرأة العزيز مراودته عن نفسه، ولعل منعطف الحديث هنا يقودنا إلى موضوع همِّها به وهمِّهِ بها والذي خاض فيه المفسرون كثيراً. إن القول الفصل عند الحرف(لولا)، فالآية تقول (ولَقَد هَمَّت به وهَمَّ بها لولا أن رأى بُرهانَ ربِّه...) يوسف «24»، ولولا هي حرف امتناع لوجود، والأصل في همِّه عليه السلام هو انتفاء الوقوع أصلاً وذلك لوجود برهان ربه. لقد أُدخِل عليه السلام السجن ظلماً، وهناك لم يحبسه الابتلاء عن الدعوة للتوحيد، لمس من السجينين ميولاً نحوه فاهتبل سانحة إصغائهما فدعاهما إلى عقيدة التوحيد(يا صاحبي السجن ءأربابٌ متفرقون خيرٌ أمِ اللهُ الواحدُ القَهَّارُ) يوسف «39». ونزولاً إلى درك البشرية إلى حين يأتي قوله لأحد السجينين: اذكرني عند ربك يريد بها وساطة لدى الملك لإخراجه من السجن، فأنسى الشيطانُ السجينَ الرسالةَ ليبقى في السجن بضع سنين حتى يعود إلى التوكل على الواحد الأحد. يؤهل الله سبحانه وتعالى الصِّديق للخروج من السجن فيفسر الرؤيا ويؤمر بالخروج فيمتنع حتى يسمع رأي النسوة اللاِّئي قطعن أيديهن وهو في لمحة صعود إلى مراقي أدب الأنبياء، فقد عدل عن ذكر امرأة العزيز التي كانت سبباً مباشراً لدخوله السجن وذلك لتعلمَ سموَّ هذا الأنموذج البشريِّ وعُلوَّه. مكَّن اللهُ ليوسف في الأرض فشرع في استقدام أهله وبدأ ببنيامين الذي ما كان له أن يأخذه بناء على قوانين الملك فلجأ إلى إخوته الذين تسمح قوانينهم باسترقاق السارق فسألهم عن جزاء السارق، فقالوا (قالوا جزاؤه من وُجِدَ في رَحْلِه فهو جزاؤه...) يوسف «75». يأتي الحديث عن القميص الذي ستر المِنْطَقة فكان سبباً في حبسه عند عمته، ووقف دليلَ كذب إخوته عندما جاءُوا عليه بدم كذب، وشهد على براءته من اتهام امرأة العزيز، وعمل على ردِّ بصر أبيه يعقوب. أما الحُبُّ فيبدأُ من قول أحدهم ليوسف: والله إني لأحِبُّك. قال يوسف: أرجو أن تكفَّ عني هذا الحب، لقد أحبَّتني عمتي فاتُّهمتُ بالسرقة، وأحبني والدي فأثار كراهية إخوتي، وأحبتني امرأة العزيز فأدخلتني السجن، فإلى أيِّ مصير كان سيأخذه حبُّ هذا الرجل؟