السير على طريق الأنبياء في الدعوة إلى الله بينت في الحلقة السابقة من هذه الحلقات في صفات الداعية إلى الله أن على الداعية تعلم هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله ، وألفت الانتباه في هذه الحلقة إلى العناية بمنهج الأنبياء عليهم السلام وطريقهم في الدعوة إلى الله تعالى ، وإن من النماذج التي رأيت التذكير بها في هذه الحلقة نبي الله يوسف عليه السلام: لقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم قصة يوسف عليه السلام، وقصّها في سورة كاملة، ويوسف عليه السلام هو ابن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم أبو الأنبياء عليهم جميعاً السلام فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي. وقد بدأت بقول الله سبحانه وتعالى : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) . ثم ختمت بقوله : »( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ) . في هذه القصة دروس وعبر تتعلق بالدعوة والعلم والتعاون مع الناس والصبر على الأذى ونصر الله للمؤمنين الصادقين وغيرها من الدروس العظيمة ، لذلك ألف بعض أهل العلم بحوثاً في هذه السورة. ومن الفوائد والعبر: كيد إخوة يوسف له ، نظراً لمحبة أبيه له وهذا ما يعرف بالحسد ومن يقرأ في السورة يرى آثار الحسد السيئة على صاحبه وعلى المحسود. لذلك جاء الوعيد في نصوص كثيرة على الحسد وخطورته ، وأنه مرض يحتاج المرء للاجتهاد في دفعه طلباً للسلامة في دينه ودنياه. وفي هذه السورة نجد الصبر ، والمتمثل في صبر يعقوب عليه السلام عندما فقد ولده يوسف ثم ولده الآخر (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) . وإن مما يحتاج الداعية إليه : التوكل على الله حيث إن الله قدر ليوسف أن يعيش في بيت العزيز بعد غيابت الجب ، ونرى ما حصل ليوسف عليه السلام من إمرأة العزيز (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). فنظر عليه السلام إلى العواقب ، وهي نظرة الموفق المسدد .. فصرف الله عنه السوء والفحشاء بل وصل الحال عندما خُيِّر (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ) فهذا تهديد ليوسف عليه السلام إن لم يفعل الفاحشة أن يسجن ، شأن يوسف وشأن كل مؤمن يخشى الله ويخشى النار التي وصفها الله بقوله (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) أن يقول: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ). والسجن مصيبة وبلاء وكربة ومن اسمه تستوحش منه القلوب، ولكن من وفقه الله نظر في العواقب، وهذا موقف يجلي حقيقة الابتلاء الذي يواجه المؤمن في هذه الدنيا ، فيوجب وجود الابتلاء الثبات على ما يرضي الله تعالى ، وإثبات الصدق في عبوديته وطاعته والاحتكام لتوجيهه جل وعلا ، وليس الاحتكام إلى الهوى وميول النفس الأمارة بالسوء .. وهذا من (المحكات) التي يتبين فيها الصادق في دعواه من الكاذب .. وقد قال الله تعالى (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) ويذكرنا هذا الموقف بموقف السحرة الذين كانوا مع فرعون عندما آمنوا بموسى عليه السلام وكفروا بفرعون وسحره وأعلنوا ذلك ؛ فإنهم لم يخافوا من القتل لأن عذاب الدنيا مهما يكن يهون بالنسبة لعذاب الآخرة .. لمن عقل ذلك من عباد الله .. فاستجاب الله له (فاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العليم) وفي قصة يوسف عليه السلام : استثمار الضيف في هذه الدنيا الفانية (فكلنا من ضيوف هذه الأرض ومن غرباء السفر) للوقت ؛ فإن المؤمن يعلم أن ساعاته محسوبة وأنه سيحتاج إلى الأعمال الصالحة في قبره (دار البرزخ) وفي الآخرة (دار القرار).. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثانِ إن نبي الله يوسف عليه السلام وهو في السجن يدعو إلى الله تعالى ، ويبشر وينذر ، وهو شأن الداعية إلى الله تعالى الحريص على هداية المدعويين وتبليغ الأمانة التي تحملها .. وقد رأى من يدعوهم في وجهه الصلاح وحب الخير فعرضا له أمرهما (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). والداعية تعظم استفادة الناس منه وتكبر كلما رأوا فيه من علامات الخير والعمل بالعلم ، واطمأنوا له ، فهناك من يدعو إلى الله بقوله وينفر بفعله وسلوكه وتصرفاته !! ولما كانت الدعوة إلى الله أساسها الدعوة إلى العقيدة الصحيحة ، وتصحيح العبادة وصرفها لله وحده سبحانه وتعالى ، نجد أن يوسف قد استغل الأمر الذي سئل عنه «تأويل الرؤيا» وبين لهم قبح الشرك ودعاء غير الله تعالى ووجوب توحيده عز وجل وإفراده بالعبادة ، وفصّل لهما التفصيل الذي تبرأ به الذمة ويتضح الأمر وضوحاً لا إشكال فيه ، وهذا درس لمن يختزل هذه الجوانب من الدعاة في كلماته ويوجزها ويتحدث عنها بإجمال لا تبرأ به الذمة ولا يتحقق به البيان. ومن الدروس المستفادة أيضاً : أن الله مكَّن له وأن الله أيَّده وأثبت براءته )وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) .ووعد من الله أن ينصر من نصره ، وأن يؤيد من عظّم حدوده. ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس فمن يرجو من الله النجاة والنصر والتوفيق والحفظ ، عليه أن يتقيه بالأعمال التي ينبغي أداؤها حتي ينصره الله ، وهو سبحانه لا يخلف وعده ولا يهزم جنده . ومن الدروس العظيمة من قصة نبي الله يوسف عليه السلام أن الإنسان يعفو ويصفح ويسامح ولذلك لما قال أخوة يوسف: ( قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ) فقال : ( قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) . وفيها صبر يوسف وصبر أبيه على دينهما ودعوتهما ، لذلك أشار الله إليها وقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في خواتيم سورة يوسف : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . ثم ختم الله السورة بقوله : (لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُل شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) . أسأل الله أن يوفق الدعاة إلى الله للسير على سبيل هؤلاء الصفوة من عباد الله تعالى .. فإن الله تعالى قد اعتنى بذكر سيرهم ومنهاجهم للاقتداء بهم والسير على طريقهم .. وأواصل في الحلقة القادمة إن شاء الله في صفات الداعية إلى الله ..