أمس الأول (الاثنين) خرج الرئيس السوري بشار الأسد، بعد صمت طويل، ليخاطب شعبه من منصة البرلمان، وكما وصف القذافي شعبه بالجرذان، أطلق بشار على «المتآمرين» والمؤامرات، التي ظن أنها تحاك ضد نظامه،«الجراثيم». وقال إن «المؤامرات كالجراثيم لا يمكن إبادتها، إنما يجب أن نقوي المناعة في أجسادنا»، ربما انطلاقاً من خلفيته المهنية كطبيب. وأضاف أن «المؤامرة» ضد سوريا تزيدها «عزة ومناعة» وأن البلاد «تمر بمرحلة فاصلة بعد أيام صعبة»، ودعا إلى «حوار وطني» قد يفضي إلى دستور جديد ويُخرج سوريا من الأزمة، «حوار بين كل أطياف الشعب حول كل شؤون الوطن»، مشيراً إلى أن «لجنة الحوار ستعقد اجتماعاً قريباً تُدعى إليه 100 شخصية»، وأكد أنه «لا يوجد حوار مع من يحمل السلاح». نفس الكلام، ونفس اللغة التي ظل بشار يرددها منذ اندلاع الأزمة السياسية والانتفاضة الشعبية في بلاده، بل أكثر من ذلك هو نفس السيناريو الذي داوم الرئيس السوري على طرحه وتكراره منذ اعتلائه سدة الحكم في بلاده خلفاً لوالده الراحل حافظ الأسد، فصدقه السوريون وتحمسوا له باعتباره رئيساً شاباً وشخصية مدنية تلقت تعليمها في الغرب وعايشت الأجواء الديمقراطية، لكن شيئاً من تلك الوعود «الإصلاحية» لم يحدث، سمعوا جعجعة كثيرة لكنهم لم يروا طحيناً ولا خبزاً. لكن ما لم يفهمه بشار في خطابه الثالث أن الوقت يمضي بسرعة، وأن الحديث عن «الإصلاح» لم يعد له مكان من الإعراب، وأن تكرار الكلام عن «المؤامرة» - خارجية أو داخلية- وعن «المسلحين المندسين» لم يعد يصدقه أحد، وأن العالم كله -قبل السوريين- يشاهد ويرى عياناً بياناً ما يجري في سوريا، وأن بإمكان أي سوري أن يصور ويسجل ما يجري حوله وينقله إلى الدنيا كلها عبر شبكات الانترنت، فلم يعد ممكناً في عالم اليوم إخفاء الجرائم التي تقترف بحق الشعب، خصوصاً في المواجهات التي تجري في الشوارع والميادين بين قوات القمع والمتظاهرين، فكان الأحرى بالرئيس بشار أن يحدث شعبه بلغة أخرى تحمل إليه رؤى جديدة تستعيد بعض الثقة المفقودة، وليس النقر على ذات الأوتار القديمة وترديد المعزوفة المحفوظة التي ملّ الناس سماعها. صحيح أن سوريا الأسد أصبحت- منذ أن وضعت حرب أكتوبر أوزارها- أحد حصون المقاومة العربية في مواجهة إسرائيل وحلفائها، ووجدت فيها كثير من الحركات الثورية والجهادية ملجأ وملاذاً آمناً، لكنها في عهد حافظ الأسد -الأكثر حنكة ودربة وقدرة على المناورة- قدمت خدمات جليلة للمشروع الأمريكي في المنطقة من خلال دورها في لبنان منذ العام 1976 وطوال سنوات الحرب الأهلية التي كان من بعض نتائجها الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وإخراج المقاومة الفلسطينية من أحد أهم معاقلها في لبنان ونفيها إلى تونس. وواصلت سوريا في عهد بشار سياسة ما عرف ب«الممانعة» من خلال تعزيز تحالفها مع إيران وحزب الله، لكن كل ذلك لم يجعلها تتحرك باتجاه هضبة الجولان المحتلة التي ظلت ساكنة على مدى 37 عاماً. لكنها عندما اشتد لهيب الانتفاضة وبدأ الشعب يطالب بإسقاط النظام لجأت لخطة ماكرة، عبارة عن رسالة مشفرة إلى إسرائيل عبر السماح لبعض الفلسطينيين والسوريين من الاقتراب والتظاهر على حدود الجولان المحتلة، وكأنها بذلك تقول لقادة الدولة العبرية إن أمن إسرائيل هو من أمن «سوريا الأسد»، وإنه إذا ما سقط النظام فإن الشعب السوري والفلسطيني سيتكفل بتحرير الجولان وفلسطين المحتلة، ومع ذلك جاء الرئيس بشار ليتحدث عن «مؤامرة جرثومية» يتم تدبيرها في الخارج ويجري تنفيذها في الداخل السوري. فور انتهاء بشار من خطابه أمام مجلس الشعب، الذي واجهه كالعادة بالتصفيق الحار، كان أول رد فعل أحدثه الخطاب «المكرور» هو خروج التظاهرات المستنكرة والمنددة في كل مدن وبنادر وأرياف سوريا، بدءاً من أحياء دمشق الطرفية ومروراً بدرعا وحمص وحماة ومحافظة أدلب، ونقلت الفضائيات غضب الشعب السوري وخيبة أمله في مضمون الخطاب الذي لم ير فيه جديداً. وأصدرت لجان تنسيق الثورة السورية بياناً أكدت فيه أن حديث بشار عن «الإصلاح والحوار» هو مجرد محاولة لكسب الوقت من أجل المزيد من الفتك بالمواطنين المحتجين. أما على المستوى الدولي، فلم تتأخر الولاياتالمتحدة ولا الاتحاد الأوروبي في شجب مضمون الخطاب الذي ركز على المؤامرة الخارجية، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية: إننا لاحظنا أن الأسد ظل لسنوات يتحدث عن الإصلاح دون فعل شيء، وأن نظامه قائم على العنف والفساد والخوف، وإننا نريد أفعالاً لا أقوال، بينما دعا المتحدث باسم المفوضية الأوروبية إلى تشديد العقوبات على النظام السوري حتى يرضخ ويستمع لصوت الشعب. أما في روسيا، الحليف الأقرب لنظام الأسد، فقد خرج وزير خارجيتها سيرجي لافروف مؤيداً لدعوة الإصلاح والحوار كما صورها خطاب الأسد، وقال إن على المعارضين أن يستجيبوا لدعوة الحوار، تماماً كما كانت تفعل موسكو مع نظام القذافي في بدايات الثورة الليبية وقبل أن تقنتع أخيراً بأن القذافي قد فقد شرعيته وعليه أن يرحل، حسبما جاء على لسان الرئيس ميدييف خلال قمة الثمانية في باريس الشهر الماضي. وكما قال د. نبيل السمان، أستاذ العلاقات الدولية في مركز البحوث والتوثيق في دمشق، عبر قناة بي بي سي الأخبارية، إنه كان يتمنى لو أن الرئيس بشار استعاض عن حديثه العام في خطابه عن الإصلاح والحوار والعفو والدعوة لعودة المهجرين بإصدار مراسيم تشريعية تقدم حلولاً وأجوبة ملموسة لمطالب المحتجين. وقال إنه عندما تنسحب القوات المسلحة من المدن بقرار من الرئيس كقائد أعلى للجيش يمكن وقتها أن تتهيأ الظروف للحوار، ويشعر الجميع برغبة جدية في الإصلاح الديمقراطي الذي تحدث عنه الأسد. لكن الملاحظة الرئيسية المتصلة بالحالة السورية، هي أن الانتفاضة السورية قد انفردت بين كل الانتفاضات العربية -ربما باستثناء مملكة البحرين- بالدعوة للإصلاح وليس إسقاط النظام، لكن نظام الأسد كمن يسعى بظلفه لحتفه، أبى وتكبر وتجبر حتى أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه، وأضاع على نفسه وحزبه فرصة ثمينة وسانحة كبيرة، بأن يبقى جزء من الحياة السياسية، بما في ذلك قيادة «الإصلاح» نفسه، وتلك خسارة لم يعد في الوقت متسع لتعويضها.. فما شاء الله كان!