حيث بدأت طائرتنا هبوطها التدريجي نحو المطار وقد لاحت ملامح المدينة العريقة التي ظلت تؤرقني من بين قطع السحب البيضاء والمتناثرة، لحظتها تكلست عيناي وأصبحتا قطعتين من الزجاج، سعيت لتدقيق النظر بين رقائق الأفق ومسارب الشعاع وبدت شمس الظهيرة شاحبة خجلاً تتوارى خلف قطع المزن .. تساءلت من أعماقي في أية مدينة تهبط طائرتنا؟.. هذه المدينة القرين ليست (الفاشر حبيبتي أبداً)، عطرها الطروب تبدل برائحة الدموع والملح .. انقطع مدد الوجد بيني وبينها واختفت وشيجة التماهي ورعشة الفرح السرمدي التي تسري في عروقي كلما زرتها... غابت الآهة الجزلى شوقاً للارتماء في أحضانها. وحين هبطت الطائرة غامت الوجدة المستقبلة واستبدت بي الغصة الحارقة. - لقد غدرت بي الفاشر هذه المرة فأمسكت عني عطرها الفواح وأخفت بدرها... أشاحت بوجهها وانكفأت على حضنها. - أم أنا من غدرت بها فنثرت قارورة عطرها خلفي، وواريت بدرها في ثرى البقعة؟ وأصل الحكاية سنة ماضية في خلق الله إلى يوم البعث.. وحكاية أم جياد رماها سهم المنايا فرحلت راضية مرضية عن أفق حياتنا.. اسمها فاطمة مهدي أم أبوبكر وخوجلي وأكنيها لأبنائها وأحبائها بنت المهدي، في مسيرة حياتها القصيرة دروس وعبر عن رسالة الأم الإنسان في الحياة وتركت من الذكرى الطيبة أكفاً تبتهل لله برحمتها.. فبساطتها وحبها للناس جعلاها في صحائف الخلود. تحكي بنت المهدي عن طفولتها وصباها ببقعة المهدي وعلى ضفاف نيل أبوروف وبين أسرتها الممتدة المهاجرة من غرب السودن لنصرة الدين والوطن والإمام المهدي.. كانت وهي صبية مع أترابها تقطف الأزهار وتجمع حبال اللوبيا من ضفاف النهر.. وتذهب مع رفيقاتها إلى بيت الخياطة في ود درو وتحتطب مع والدتها شرق أبوحبيب.. وتركب الترام مع شقيقها فرح.. وتزور مع جدتها قبة الإمام وتصيخ السمع فجراً لقراءة راتب المهدي وتستمع بدهشة لقصص برمبل المأمور الإنجليزي.. وتردد مع أخواتها وزميلاتها في بيت الخياطة أغاني كرومة وود البنا. كانت تعدد لنا (النفاجات) بين منزلهم والجيران، وتروي لنا الأحاجي في الليالي المقمرة عن ود النمير وفاطمة السمحة.. ونحن مثل زغب الطير نتدافع إلى حضنها، ثم تحدثنا كيف عادت مع أخواتها وأخيها إلى الفاشر بعد موت الأخ الشقيق الفاضل وغياب الوالد ورحيل الأخت الكبرى إلى الفاشر. أصل الحكاية أن الفاشر مدينة مشبعة بسمات سكانها.. لا تعرف الضغينة ولا الإنزواء.. تحتضن كل عابر سبيل ومهاجر.. وما بين الفاشروأم درمان مثل ما بين النيل وحجر قدو من غيرة مثل غيرة الضرار على البدر الذي غاب فأطفأ الأنجم الزواهر من المدينتين.. فقد ودعت بنت المهدي أم درمان صبية غضة.. ونسجت من ذكراها عشها بالفاشر مع صغارها وتشربت بسمات تاريخها.. وعايشت حاضرها.. ما بينها وبين الفاشر عمر وشبه لا تفارق الابتسامة الحنونة شفتيها.. حيث تتلقاك بينما يشوي جمر الحياة منها الأقدام، ويعصر الألم أحشاءها.. حياتها أماً وجدة، مدرسة في القناعة وكنز من الحكمة ونتاج مدرسة الحياة في مقبلها وآخرها. تحاصر حياتها وحياة من حولها بقيم الفطرة في التقوى والتوجه بروحها وجسدها في خشية الله، والصبر على البلاء والأذى والاستمساك بالتسامح والحب وصلة الأرحام وأداء الواجب والأمومة المفتوحة الأبواب لأبناء أخوانها وأخواتها وأبناء الجيران والمعارف والصدق في المشاعر. ومن عشها كانت كالظليم ترمح بجناحيها على صغارها تظلهم من الهجير العواصف، وتحميه من نزوات أنفسهم، وتغرس في وجدانهم حصانة ضد الغل والحقد والكراهية.. قالت ذات مرة مخاطبة بعض أبنائها وفي أواخر أيام حياتها: (في سبيل الذود عنكم، فقد انشأتكم في مرارة وتحملت تجهمات الحياة وتطاول الصغير وصبرت على فراق بعضكم، فلم ينفعني سوى الصبر والمسامحة ورجاء ما عند الله بعد أن أزلتم عني طعم تلك المرارة). عاشت بين الناس هادئه وديعة تنفق من قليلها وتهدي من كسائها ومتاعها لذوي القربى والمساكين.. وإن عز عليها الإنفاق.. أنفقت الكلمة الطيبة والدعاء الصالح والمواساة.. وتتفقد أحباءها إن غابوا عنها، وحيثما ذهبت تركت أثراً وامتلكت القلوب وتسربت مثل الضوء إلي النفوس. ما بالك يا الفاشر يا بنت أمي تزيدني حزناً على حزني. رحمك الله يا بنت المهدي ولله الحمد