الفاشر هي موطني.. ولدت فيها وعشت كل مراحل حياتي النضرة.. وأنا أحبها.. والإنسان يحتفظ في ذاكرته بالمكان والزمان والشخوص.. وفي الخيال مئات الآلاف من البشر ومئات المنازل والأماكن.. وما كانت في هذه المنازل من حكايات وما كان فيها من ذكريات تطغى على مشاعري بأسمائها وحياة الأسر والأحياء وما فيها من ذكريات غالية. الفاشر وحدة اجتماعية متميزة وكل حي فيها له صفاته الخاصة.. وبرغم الخصوصية والعادات والتقاليد الموروثة لكل مجموعة داخل حواري المدينة، تشكل مجتمعاً واحداً موحداً متكاملاً ومترابطاً قائماً على المحبة والإخاء، ورغم متغيرات الحياة وتحريك دولاب الحياة الاجتماعية، نجد أن الذين ولدوا تحت سماء مدينة الفاشر حيث النقاء والمحبة والوفاء، تحت أحضان أسر عريقة هم أبناء الفاشر الذين عاشوا تلك الفترة الوضيئة وكانوا في مكان الصدارة.. والمرء عندما يكون مسكوناً بحب المدن الحبيبة للنفس، يختزن صور وأشكال تلك المجتمعات برموزها وينابيع أحداثها فرحاً وحزناً، فحقاً هي أحداث مهمة ومؤثرة بدرجة تفرض نفسها على كيان الإنسان. فتصاريف الحياة عجيبة، يرى الإنسان يوماً عسراً وآخر يرى يسراً وفرحاً ولا نعرف ما يخبئه الغيب، ولكن بحكم طبيعة الإنسان يكون الحاضر أحلى ولا نأسى على ماضٍ تولى.. وإذا أتى الدهر يوماً بنكبة فلابد للإنسان أن يفرغ لها خيراً ويوسع لها صدراً. فارقت أزقة وحواري مدينتي الفاشر وجوه لهم محبة.. وكان همهم في الدنيا محبة الناس، هم علي خلق ودين والخلق الفاضل غريزي غير مصطنع لديهم، ينبع الحب والود ومعاملة ومعاشرة الناس بخلق حسن، ينبع من طبعهم الشخصي وسجيتهم وكفى فخراً بهم إئتلفت قلوب أهل الفاشر. غاب نجم في الدجى يضيء سموات مدينتي علماً وحكمة ووعياً.. رحل عنا الشيخ الفاضل أبو القاسم الحاج محمد، من جيل الأزهريين الأوائل، الإعلامي المطبوع صاحب أول مكتبة ثقافية بالفاشر.. صاحب الوعي الوطني.. جيل مؤتمر الخريجين، جيل العمالقة من لهم القدح المعلى واليد الطولى لوضع بذرة الوطنية ومحاربة الاستعمار ونشر الحس الوطني لطرد المستعمر الدخيل وتحمل ضريبة الوطن عندما كان حبيساً بسجن البان جديد بالأبيض لجريرة حرق العلم البريطاني. العم أبو القاسم الحاج محمد تربطني معه أواصر الأبوة، علاقة والدي الحاج جماع آدم بالعم أبو القاسم عشرة عمر منذ الصبا الباكر بمدينة الفاشر- جيل ودع الدنيا بجميل الأفعال والخصال- ودفع ضريبة الجهاد في سبيل الحرية والديمقراطية بتجرد ونكران ذات مهراً غالياً في سبيل استقلال السودان وحريته، أسلم الروح إلى بارئها بمدينة الفاشر، فقد كان صادقاً في وطنيته وصادقاً في اتجاهه ومناداته بالحرية للجميع. وبذات المسيرة انطوت صفحة وضاءة مشرقة لأخوة وأعمام لهم يد سبقت وفاءً وعرفاناً لهذه المدينة.. الأخ محمد جوهر سليمان ابن الحركة الإسلامية رفيق الدفع بالعمل الإسلامي عندما كان الناس تهاب ذكر الأخوان المسلمين إبان فترة مايو.. جوهر ذاك الشاب الذي مضى مسرعاً لدار القرار وكأنه يعلم بالرحيل العاجل المر.. محمد جوهر سليمان صاحب القلب الكبير صاحب الإحسان والصفح والمباشرة اللطيفة.. هكذا الدنيا- له الرحمة والمغفرة. والدهر تجري تصاريفه يوماً بعد يوم.. ومن الأنجم التي غابت عن سماء مدينتي العم الفنان بشر سعيد صاحب الفعل الغنائي الأول في نهاية أربعينيات القرن الماضي عندما غنى أغاني الكاشف وعبد الحميد يوسف، وخلق ذوقاً فنياً رفيعاً وأثرى الروح الفنية بمدينة الفاشر وله الصدارة عندما كرم الفنان زنقار وعائشة الفلاتية عند زيارتهما لمدينة الفاشر في عام 1946م، وكانت المناسبة عرس التاجر ناصر عباس خال الأخ مالك أبو سم وكان جيل العمالقة بشر سعيد وحسن محمد صالح وحمزة خلف. ورحل صباح الخير صاحب القلب الكبير والبسمة المضيئة، وتفجرت أنهر الحزن حين رحل الأخ والصديق كبير الصاغة بسوق الفاشر المرحوم إسماعيل عمر محمد صاحب اليد الممدودة مثل فضاءات مدينتي، رحل بعيداً عن البقعة المباركة أم درمان وعندما سرى الخبر كنت حضوراً بالفاشر لأداء واجب العزاء في ابنة شقيقتي إنصاف جماع وشاهدت العزاء.. الكل يعزي نفسه وكأن روحه تصافح الحضور الكبير بداره.. وتودعهم وعظمت المصيبة- والكل لفقده واجم. عجباً لأربع أذرع في خمسة في جوفها جبل أشم كبير حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار الهيئة العامة للحج والعمرة