من بعض بركات الثورة السورية، هي أن تسمح السلطات هناك، وللمرة الأولى خلال أكثر من أربعين عاماً هي عمر النظام الذي أنجبته حركة حافظ الأسد «التصحيحية» أو الانقلاب الذي انتقل بموجبه من منصبه كوزير للدفاع إلى سدة الرئاسة، مطيحاً برفاقه الآخرين من قادة حزب البعث العربي الاشتراكي. ففى سوريا طوال هذه العقود لم يكن مسموحاً لأكثر من ثلاثة أشخاص الاجتماع للبحث في شأن عام. ولكن الحكومة هذه المرة أعطت الإذن بعقد الاجتماع مجبورة، على قاعدة ما «جبرك على الحار إلا الأحر منه». فقد تداعى جمع من المثقفين السوريين، معارضين ومستقلين، وشخصيات وطنية وعلمية وقانونية إلى مقر اللقاء التشاوري في فندق شيراتون بدمشق، بغرض البحث في الأزمة السورية وآفاق الحل، بعد أن بدا واضحاً لهم أن البلاد تنزلق إلى هاوية بلا قرار، بما في ذلك احتمالات التدخل الدولي لحماية المدنيين الذين تصليهم نيران العصبة المحيطة بالرئيس بشار الأسد من إخوة وأصهار وأقارب وذوي حظوة. لقاء دمشق التشاوري الذي كان من المقرر أن يحضره نحو «200» مشارك، أشارت بعض المصادر أن من حضروه كانوا أقل من العدد المتوقع، وقدمت خلاله أوراق تحمل تصورات الذين حضروه، وأصدر بياناً ختامياً أسماه «وثيقة عهد». ومن بين الشخصيات المعارضة البارزة التي حضرت اللقاء ميشال كيلو وفايز سارة ولؤي حسين، ومن الفعاليات الثقافية الشيخ سعيد جودت والروائي نبيل سليمان، والمخرج السوري محمد ملص، ومامون البنى، كما شارك فيه ممثلون للأحزاب الكردية، وتركزت جل النقاشات على رفض الحل الأمني للأزمة والاستماع لمطالب الشعب. ميشال كيلو، المعارض السوري الأبرز وأحد قادة ما يعرف ب«ربيع دقق» والذي أمضى سنين عديدة في سجون النظام، قال: إن على النظام أن يغير تعاطيه مع الأزمة بهذا الشكل الأمني، لأنه بهذه الطريقة سوف ينقل البلد إلى كارثة، وهذه ليست نتيجة للمؤامرة التي يتحدث عنها النظام، بل نتيجة تعاطيه مع الأزمة بهذه الطريقة، التي تعني دمار سوريا، ودعا إلى سحب قوات الجيش والأمن من المدن، وإن بقى يجب أن لا يطلق النار على المتظاهرين الذين يجب أن يسمح لهم بالخروج للتظاهر، وطالب بالحوار مع المعارضة والاعتراف بأن هناك أزمة في البلد والاتكاء على حلول نتائج الأزمة وليس على حل مسبباتها، ورأى أنه حتى لو انتصر النظام على الشعب ستكون دولة مفككة وليس لها شرعية، لأنها فقدت أساسها الاجتماعي وبدأت أزمة ثقة بين الدولة والمجتمع، ودعا كذلك إلى زوال النظام القائم على المستوى الهيكلي. أما لؤي حسين، منسق اللقاء التشاوري، فقد قال: النظام الاستبدادي الذي يحكم البلا لابد له من الزوال، وإقامة نظام ديمقراطي مدني على أسس المواطنة وحقوق الإنسان ليحقق العدالة والمساواة لجميع السوريين دون تمييز، وإننا نجتمع هنا اليوم في محاولة لتحديد أسباب إعاقة انتقالنا إلى دولة ديمقراطية مدنية ولنحاول استناداً إلى قراءة واقعنا الراهن وما ينذرنا به من مخاطر مدمرة أن نضع تصوراً عن كيفية إنهاء حالة الاستبداد والانتقال السلمي والآمن إلى الدولة المنشودة، دولة الحرية والعدالة والمساواة. وأضاف: نحن نجتمع هنا ليس لندافع عن أنفسنا أمام سلطات تتهمنا بأبشع التهم، وليس لندافع عن أنفسنا أمام من يتهمنا بالطيش أو اللامسؤولية وبأننا نخون مطامح شعبنا أو نساوم على دماء شهداء الحرية، وليس لنقدم صك براءة أو شفاعة، ولكن لنقول قولاً حراً ولا حدود له سواء ما يمليه علينا ضميرنا من مسؤولية تجاه شعبنا، الذي ينتظر منا أن نساهم في تبديد هواجسه من قادم أيامه، الذي يبدو له مجهولاً بكل ما يحمل المجهول من مخاوف. من الواضح أن السيد لؤي حسين، منسق اللقاء، يرد بذلك على الاحتجاجات التي صدرت من المعارضة الخارجية، خصوصاً أولئك الذين حضروا مؤتمر أنطاليا في تركيا وبينهم جماعة الأخوان المسلمين الذين رأوا أن مجرد الإذن يمثل هذا الاجتماع غير المسبوق في تاريخ «سوريا الأسد» يمثل خدمة للنظام ويصوره بأنه نظام لا يقمع المعارضين، ويعطي مصداقية لادعاءاته بأنه لا يحارب الشعب والمحتجين، إنما يقاوم مؤامرة خارجية وعناصر مسلحة تخريبية يتهمها بأنها تقف وراء الاضطرابات وتوجه أسلحتها لقوى الجيش والأمن. لكن البيان الختامي الصادر عن اللقاء بدد مثل هذه المخاوف، بدعوته صراحة لدعم الانتفاضة السلمية التي تنشد الديمقراطية، وعبر عن رفض المجتمعين للحلول الأمنية ودعا لإطلاق سراح المعتقلين والسماح بالتظاهر السلمي، وطالب بزوال النظام الاستبدادي وتشكيل حكومة انتقالية لخمس سنوات، برغم من أنه لم يدع صراحة كما يفعل المتظاهرون في الشارع «لإسقاط النظام» لأن ذلك هو أعلى سقوف المطالب، كما رأى معارض من واشنطن، ولا يمكن لمن يجتمعون في الداخل، وبإذن من الحكومة والنظام، أن يعلنوا بذلك الوضوح ولكنهم التفوا عليه وصاغوه بعبارة مخففة هي «زوال النظام الاستبدادي وإقامة نظام ديمقراطي». يجيء لقاء دمشق التشاوي قبل نحو أسبوعين تقريباً من الدعوة التي وجهها النظام، وتحدث عنها الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير في مدرج الجامعة، وهي بدء الحوار الوطني الشامل مع القوى السياسية السورية في العاشر من شهر يوليو المقبل، وقالت وكالة الأنباء السورية «سانا» إن هيئة الحوار الوطني برئاسة نائب الرئيس فاروق الشرع تابعت اجتماعاتها وبحثت سبل الخروج من الأزمة وجدول أعمال اللقاء التشاوري الذي دعا إليه الرئيس، وقررت الهيئة عرض موضوع «التعديلات الدستورية»، خصوصاً تلك المتعلقة «بالمادة الثامنة» التي تجعل من حزب البعث الحزب الوحيد الحاكم والقائد للدولة والمجتمع، كما رحبت الهيئة - بحسب سانا- بما وصفته «بالحراك السياسي الذي تقوم به الأحزاب والشخصيات السياسية والثقافية والفكرية- في إشارة للقاء دمشق- مؤكدة على إيجابيته في رفد الحوار الوطني وإغنائه». مهما تعددت التحليلات وتباينت الرؤى حول «لقاء دمشق التشاوري» فإنه يظل خطوة على الطريق الصحيح أو شمعة يتم إشعالها وسط ظلام دامس، صحيح أن النظام قد يستفيد منه لتجميل صورته وإعطاء انطباع خاطئ - بهدف المناورة- بأنه على استعداد للتنازل عن مكتسباته التاريخية في السلطة والثروة، أو يستخدمه لشراء الوقت ويواصل نهجه القديم في قمع الشعب المحتج وملاحقة الناشطين، لكنه في الوقت ذاته يفتح كوة أمل من خلال الضغط على النظام وإجباره على الاعتراف بحق المعارضين في التعبير الذي مضت عقود متطاولة قبل أن يحصلوا على أي شيء منه، وأبرز دليل على ذلك أن لقاء دمشق هو الأول من نوعه منذ أن وصل نظام الأسد إلى الحكم. ويرى المشاركون في اللقاء أن ذلك حقاً انتزعوه بفضل كفاحهم الطويل الذي جاءت الثورة الشعبية السلمية لتتوجه وتجعله ممكناً بعد أن كان من المستحيلات. كان أول المرحبين، على المستوى الدولي بلقاء دمشق هي الولاياتالمتحدة، واعتبرت اللقاء بمثابة خطوة مهمة على طريق الحوار المفتوح الذي تشجعه بحسب قول دانيال ايرنست نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، وقال: نحن نشجع الحوار المفتوح بين السلطات والحكومات في العالم وشعوبها، وما يهمنا أكثر هو وقف استخدام العنف ضد الشعب السوري. ويترافق تصريح الخارجية الأمريكية المرحب بلقاء دمشق مع استقبال الرئيس الأسد وفداً من الكونغرس الأمريكي بقيادة النائب الديمقراطي دينيس كوسنيتش، الذي بحث معه وفقاً للوكالة السورية «المطالب المحقة» للشعب السوري، وأن الرئيس وضع الوفد في صورة الأحداث التي تشهدها بلاده، لكنه قال «إنه يجب التمييز بين المطالب المحقة التي تعمل الدولة على تلبيتها وبين التنظيمات المسلحة التي تستغل هذه المطالب لإثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار»، ما يعني أن الرئيس بشار لازال يتمترس في خانة تحليله القديم القائل بأن مايجري في سوريا هو «مؤامرة» قبل أن يكون «مطالب محقة». كما استقبل الأسد أيضاً النائب البريطاني المحافظ بروكس نيومارك وأطلعه كذلك على ذات وجهة النظر، وفقاً لما أوردته الوكالة. ومع ذلك، لا يزال الوقت مبكراً للحكم على هذه المؤشرات والتحركات المتمثلة في لقاء دمشق، والتواصل بين تشريعيين غربيين من أمريكا وبريطانيا وبين النظام السوري، برغم أنها تبدو إيجابية على طريق إيجاد مخرج للأزمة التي تعيشها سوريا، أم أنها ستكون جزءً من نهج المناورة الذي عرف عن النظام السوري منذ عهد «الرئيس الوالد» حافظ الأسد، وأنه لن يمضي وقت طويل قبل أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه وتنزلق البلاد نحو الكارثة التي حذر منها ميشال كيلو ورفاقه.