لا أبالغ ولا أعبث فنضال أبناء الهامش الآن ليس من أجل إسكان مواطنيهم في الفلل ولاعتلائهم صهوات الفارهات، وإنما لكي يكونوا في مرتبة الفقراء فحسب. وحتى يكون كلامي أبلج لا غموض يكتنفه، فإنني سأسأل وأجيب فوراً أسأل من هو الفقير في أحياء مدني ودنقلا وكوستي وعطبرة وجبل أولياء؟. أليس هو صاحب بيت الجالوص(أوضتين خلف خلاف وحمام ومطبخ) الذي يرسل أولاده إلى المدارس بمصروف لا يكفيهم، ولكنهم إذا مرضوا فإنه يحصل لهم على علاج مدعوم من المركز الصحي، وأنه الذي يملك جلابية وغيارها ويشتري رصيداً محدوداً جداً من كهرباء الجمرة الخبيثة؟. أليس الفقير بالمقاييس السودانية التقليدية هو الذي يطعم أولاده الفول والعدس وإذا زاره ضيوف يقدم لهم العصير والشاي؟. أليس الفقير هو من يملك(سراير) قديمة لها مراتب قديمة وملايات رخيصة مقطعة؟ أليس هو الذي يركب المواصلات هو وأولاده في الصباح وفي نهاية اليوم، ويحصل على راتب شهري منتظم أو يحصل على ريع مزرعته أو جنينته أو عربة الكارو؟. أليس الفقير هو الذي يجد فرصة عمل شاق فيكد ويعمل من أجل تربية أولاده فيبذل العرق والعمر والعافية ليتخرج أبناؤه في الجامعات فيشلوا الشيلة ويتحملوا المسؤولية سواء لأنفسهم أو لوالديهم وإخوانهم إن أمكن؟. أليس كذلك؟ أم أن مثل هذا المثال ليس فقيراً؟، فإذا كان هذا هو الفقير، فأعلموا أن إنسان السودان الذي يعيش في الهامش(قري النيل الأزرق وجنوب كردفان وجنوب دارفور وجنوب سنار) لا يجد أياً من هذه النعم العظيمة بل إنه يحلم بصنبور الماء النقي الذي يستمتع به يومياً فقراء أواسط وشمال السودان، ويحلم بلمبة النور ويسافر أياماً بلياليها حتى يمتع بصره به وكم تحول وعورة الطرق والأوحال والخيران المندفعة من كل مكان دون نيل الوطر. إن إنسان ريف «الجنوب الجديد»، يعيش خارج التاريخ وخارج أماني الفقراء، ذلك أن الفقراء في الوسط والشمال هم فقراء هذا العصر، ويمنون أنفسهم بما تتيحه الحضارة والمدنية لسكان شمال العالم اليوم، بينما مواطن الهامش الجنوبي الجديد يمني نفسه بأن ينضم إلى المجتمع المعاصر بأي شكل. إن الهامش المقصود هو هامش العصر وليس فقط هامش السودان. من هنا، فإننا نلمس خيانة ما، من جانب من يرفعون شعارات ومطالب المجتمع المدني لصالح إنسان الهامش. فمجتمع الهامش ليس مجتمعاً مدنياً أصلاً حتى نطالب له بالحرية والشراكة الديمقراطية وحرية التعبير والمساواة بين الجنسين إلخ. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرُُ ُ كوضع السيف في موضع الندى. إذاً فلابد من تحويل الهامش من طور المجتمع البدائي إلى طور المجتمع المدني الذي تليق به شروط ومطالب وأشواق المجتمع المدني. وأما العبث، كل العبث والزيف، فهو أن نطالب بحرية التعبير بالنسبة لمن يقضي حاجته في الخلاء.. فأي تعبير أحرّ من هذا(!!). يا أخي، هو في مرحلة(حرية التبعير)فكيف تناضل له فيحصل على حرية التعبير؟؟. هذا مجتمع غير مدني، وتلك مطالب مجتمع مدني، ولهذا السبب وغيره طالبت من قبل يساريي الحركة الشعبية أن يكفوا عن(وكالة النضال) غير الواقعي وغير المنطقي وغير الأصيل والذي يقودونه لصالح إنسان الهامش.. قلنا يومها: دعوا الهامش للهامش ، أو لأبناء الهامش، فأهل مكة أدرى بشعابها، ودونكم نضالكم لصالح الفقراء من أجل المساواة ومن أجل الشراكة السياسية وطلب الحكم الرشيد والكفاية والعدل، في المجتمع المناسب والطور المناسب. قضية الهامش أغرب مما تتخيلون، وأولويات الهامش لا تخدم خياراتكم وغاياتكم السياسية والأيديولوجية. وسوف لن تتفهموا أبداً أن عري المرأة في الهامش ليس هو العري الذي تطالب به ناشطات حقوق المرأة في إطار الحرية وحقوق الإنسان فمفهوم الحرية عند امرأة الهامش التقليدية هو ما يحقق لها حلم الستر بثوب متين وملوّن تمشي به الهوينى. امرأة الهامش تُريد أن تتحرر من العري البدائي التاريخي ليكون لها حق التمتع بالثياب التي لا تهتريء بسرعة فتكشف مفاتنها، بل تعتقد أنها ستكون أكثر جاذبية وأوفر زينة وجمالاً حينما تتدثر بالثياب الشعبية. الهامش يريد أن يكون فقيراً يا عالم كفقراء العالم، ولكن ذلك أيضاً غير متاح له، لذا فليس أمامه سوى أن يناضل من أجله بكل ما أوتي من عوز وبدائية ووحشية.