الحكومة ليست إطلاقاً المسؤولة دائماً عن أزمات الهامش ومشكلاته، ولكنها مسؤولة في غالب الأحيان فقط، وأما المسؤول الآخر والأهم فهم أبناء الهامش الانتهازيون. هؤلاء يتسببون في استمرار أزمات ولاياتهم وكوارثها من ناحيتين، الأولى هي أن فروض الولاء والطاعة التي يقدمونها لقادة أحزابهم في المركز، عبر التذرع بالانضباط التنظيمي ومراعاة أولويات الحزب وخدمة أهدافه الوطنية العليا والسامية، كل ذلك يدفعهم إلى التنازل عن حقوق مناطقهم مجاناً وتمرير السياسات غير العادلة والتي من شأنها إحداث تنمية جهوية غير متوازنة، أو الاكتفاء بدعم تمويل مشروعات تخدم مصلحة التنظيم وقادته، يسكتون عن هذا ليظهروا كأعضاء وكوادر مثالية مخلصة تضحي من أجل تعزيز موقف القيادة ضد المتربصين بالتنظيم وأهدافه المشروعة!. ولو أنهم كانوا يضحون بحقوقهم الشخصية لقلنا صدقوا وأفلحوا، بيد أنهم يفرطون في حقوق من هم أحوج وأحق ممن تذهب إليهم الحقوق المسكوت عنها خيانة وتواطؤاً. وفوق ذلك فإن كوادر الأحزاب من أبناء الهامش (ثانياً) يتمركزون (They Totaly get Centralized) بالمعنى السلبي للمركزة، أي تلك التي تعني التثقف بعقلية المركز المتسلط والمعتني بنفسه أولاً وأخيراً، إلى حدِّ توظيف حقوق وموارد الهامش لصالحه بذريعة أنه مركز، وله حقوقه، ومسؤولياته التي تتطلب هذه الأثرة والاستحواذ النرجسي. هؤلاء المهمشون المتمركزون، يستمرئون عقلية المركز السلبية، فيكتفون بمصالحهم الذاتية، وتصبح أولوياتهم هي أولويات وهموم ظاهرة المركز الجشع والمستعلي جوراً، وهكذا يحب مال المنصب الدستوري حباً جماً، ويأكل تراث الامتيازات ومردودات النفوذ والعلاقات «الماكنة» أكلاً لما. وهات يا حشم وخدم و ولائم وخيارات مدارس أجنبية ومستشفيات فاخرة، وينسى مطالب أهله المتواضعة والدوافع الأخلاقية والوطنية التي أوصلته إلى هنا، وليت الأمر يقف عند ذلك، ولكنه يتذكر أهله ومنطقته بألم، كلما أحس باضطراب كرسيه، أوبقرب أجله السياسي جراء التعديلات الوزارية والالتزامات المستجدة... ففي هكذا حالة فإنه سيتذكر قضايا أهله ومعاناتهم فيبعثها حرَّى في صدره وفي تصريحاته، ويسارع بها إلى ولايته وقواعده الشعبية، وكل ذلك إنما هو تلويح ورسائل إلى متخذي قرار أوضاعه (المتمركزة) بأنه والله، قسماً عظماً، إذا جئتم ناحيتي لأعيدنها جزعاً يا أولاد الذين!. ما يهمنا ههنا من هذا النموذج (نموذج المهمش المتمركز) أنه يصبح أكثر ملكية من الملك، يريد أن يتقمص شخصية المركزي الأصيل، ناتج الاستعمار، فيصبح أشد منه بأساً تجاه مناطق الهامش، بدعوى أنه بات مسؤولاً عن قضايا الوطن القومية، وأنه لابد أن ينظر إلى كل السودان من المسافة نفسها وبذمة، دون خيار وفقوس، فتتساوى أولويات الإنفاق القومي ومقاديرها دون مراعاة لما كان يدعو إليه سابقاً من فجوات تنموية تاريخية، جعلت أقاليم تحظى بفرص أوسع من غيرها، إما بسبب سياسات المستعمر وانحيازه إلى مناطق مصالحه وإلى القبائل التي ناصرته وآزرته، أو بسبب اقتفاء أثر ذلك المستعمر، في السياسات، من جانب أبناء المناطق التي خدمت مصالح المستعمر فحظيت بميراثه وثقافته الإمبريالية، بما أفرز ظاهرة المركز المستعلي جوراً وانتهازاً «وانتو جايين من وين؟!». قالوا: التركي ولا المتّورك، هذا القول أطلقه أهل السودان للتعبير عن سوء مسلك وأداء السودانيين المستخدمين من قبل التركية السابقة في تحصيل الضرائب الباهظة وفي اقتياد الناس إلى الأغلال والسجون على نحو شديد القسوة، حتى سرى شعور عام بأن المفتش التركي قد يحنو عليك فيسامحك أو يراعي ظرفك، وأما عامله السوداني (كارب صليبو مرسال الليل) فإنه يريد أن يحسن دور التركي فيفعل باسمه وبالإنابة عنه الأفاعيل ضد أهله السودانيين. فخلص الناس إلى أن (التركي خير من المستترك) وفياساً على ذلك، فإن المركزي الأصيل ابن مستخدمي المستعمر وورثة سلطانه الجائر وعلى سوء ما يفعلون، فإنهم خير من (المهمش المتمركز)!!، إنا لله وإنا إليه راجعون. صحيح أن هذا النموذج واسع الانتشار اليوم بين الوزراء الاتحاديين ووزراء الدولة والمستشارين وأيضاً على مستوى الولايات، قد يقدمون أو يساعدون في جلب بعض الخدمات المحدودة والرمزية لمناطقهم التي صدروا عنها، وذلك من باب الحياء ولإسكات ألسنة أهلهم وايقاف كثرة الخطى التي تسعى إليهم مراراً طلباً للذكرى والوفاء بالوعد، إلا أنهم يكونون أشد قسوة من المركزي الأصيل، إزاء مطالب أبناء الهامش الآخرين، وحجته هي هي: عندنا التزامات قومية وأولويات وطنية أهم، والسودان كله واحد!!. كلامي هذا لا أقصد به وزير المالية ولا الوزراء والمستشارين من دارفور والشرق والنيل الأزرق وجنوب كردفان. ولكنني أقصد ضرورة وضع حدّ لبازار المتاجرة بقضايا الهامش من جانب أبنائه الانتهازيين الساعين إلى التمركز باسم التهميش. وأكبر دليل على صحة ما أقول هو أن أبناء الهامش قد استوزروا وصاروا إلى المركز، بينما الهامش مازال مهمشاً. بل أصبح مهمشاً بالحروب المفتعلة.