استلم (خالد) من (خالد) ويظل الأمر خالد منذ قديم الزمان، إذ يعلن السادة المهندسون الكرام المسؤولين عن المياه بولاية الخرطوم عن حزمة من الحلول للوصول إلى إمداد مائي مستقر بأحياء العاصمة المثلثة، منها مد خط ناقل جديد (لنج), تأهيل الصهاريج, فصل الشبكات القديمة من الجديدة, إكمال التوصيلات المنزلية للشبكات الجديدة, العمل على نظافة الخطوط القديمة من الألياف ومراجعة البلوفة, بالإضافة إلى حفر آبار جديدة...الخ.. ويستمر التفاؤل, ولكن من أخطر هذه الحلول والابتكارات على المجتمع السوداني الكريم هو ما جادت به قريحة المخطط ما يعرف وسط جموع البسطاء وما سمي (بعدادات الدفع المقدم) سيئة السمعة والذكرى، والتي صارت تحتل مساحة زمنية في حديث وتصريح ونقاش مع السيد الوالي ومعاونيه، وتختلف وتتفق وجهات النظر ويظل هم الدكتور الخضر توفير مياه لمواطن العاصمة، فأنا شخصياً أعرف أنه من أكبر تحدياته في أول أسبوع لتوليه الولاية هو توفير هذه السلعة الضرورية والغالية. وكلمة (مقدم) المرادفة لعداد المياه والتي يعنيها الذين يجلسون على الماء لا علاقة لها بالرتبة العسكرية، فهذه الرتبة معروفة من العصر العباسي باسم (مقدم المعسكر)، وفي عصر المماليك عٌرفت (بمقدم ألف) لكون صاحبها في مقدم ألف من المقاتلين.. والمقدم هو الآمر الذي يتقدم الطليعة في الجيش... فإذا كان المقدم في الخدمة العسكرية يسعى لأن يضحي بنفسه من أجل الجماعة فإن المقدم عن مسوؤلي مياه الخرطوم هو التضحية من أجل الجماعات العطشى.لماذا الإصرار على تطبيق قرار هذه العدادات، والالتفاف حول قرار السيد الوالي رغم إن الصراعات التي نسمع بها في السودان عموماً كالعنف حول مياه الري، حتى مشكلة منطقة أبيي، من أكبر المشاكل التي تطفو على السطح، كمشكلة نجدها بين القبائل حول الرعي أو الأرض، حيث لم يكن هناك تنافس بسبب أسبقية الري أو الخلاف حول مصادر المياه.. فإن الجميع يعلمون إن الماء مورد طبيعي محدود وسلعة عامة أساسية للحياة والصحة، وحق الإنسان من الماء هو حق لا يمكن الاستغناء عنه للعيش عيشة كريمة، ولاية الخرطوم صاحبة السوابق في (المقدمات)، نعرف أنها تقع على نهري ضفاف يتعانق فيها النيل الأزرق مع النيل الأبيض، ليكونا نهراً من أنهار الجنة كما تقول الروايات، وهذه المناظر الجذابة لا يلتفت إليها عامة الناس، فقد صار النيل مصدر ازعاج لهم، ولاية الخرطوم تعرف تماماً- قبل وصول النيل إليها- إنه تقع على ضفاف النيل ثماني دول تعاني من الحروب والصراعات والنزاعات الداخلية، ولاية الخرطوم ومسؤوليها الكرام يعلمون تماماً إن السودان لا يعتمد على الزراعة المروية، فسياسة عدادات الدفع المقدم يقصد بها الكفاءة في التوزيع أو ترشيد الاستخدام، أو المحافظة على المياه العذبة خوفاً من المجاعة المائية.لقد عرف المهندسون منذ قديم الزمان بأنهم ماهرون في الإدارة وقياس الأمور بوحدات قياس، وأجهزة قياس مختلفة وحدات الإبعاد والأحجام، يعتمدون على البحث الميداني لإيجاد الحلول، إنهم بدون شك لهم خبرات ميدانية في كل جزء من دورة مشاريع توفير المياه، جمعاً وتنقية وتحليلاً ونقلاً، فالتسابق على تطبيق مشروع هذا الدفع المقدم، لأنهم يعرفون أيضاً قيمة الوقت فإضاعته تعني إضاعة المال، وعليه يجب التحكم جيداً في مخطط تزامن الأشغال في برامجهم، تأخير التطبيق يحجز خلفه كثيراً من المشروعات التنموية من أجل مستقبل ولاية الخضر.نمت الحضارات على ضفاف الأنهار والبحار، ولم تنمُ في الصحراء، ولكن في مكة أرض الوحي حيث لا مياه بل وتحيط بها الجبال، نمت أعظم حضارة وكان سكانها يقومون بواجبهم تجاه الحجاج، فتضامن وجهاء قريش للقيام بواجبهم، وكانت المناصب في قبيلة قريش خمسة عشر منصباً قسمتها قريش بين بطونها المختلفة لتحفظ التوازن القبلي(حكومة وحدة وطنية)، ولتمنع التناحر والتنافس ولتحفظ لقريش وحدتها وتماسكها وكانت من أشرف المناصب هي(السقاية).. وقصة جلب المياه من مسافات بعيدة لسقاية الحجيج تجد من عبد المطلب- والذي كانت له سقايتهم- جهداً وعسراً، ورؤية عبد المطلب في حفر بئر زمزم حينما جاءه صوت رقيق غريب فيه أنس ووحشة، يقول له أحُفْر طيبة «ثم» أحُفْر زمزم وما زمزم ؟ (لاتُنزح ولا تُذم ٌ تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم) هذه القصة الخالدة يذكرها التاريخ عند خروج عبد الطلب وابنه الحارث في كشف مكانها وحفرها، وتدفق الماء من جديد في هذه البئر المقدسة، والتي تم حفرها بجناح (مًلك) ورجل (نبي) ولهفة (أم). لقد دخلت مياه زمزم سباق الدفع المقدم من خلال شركة المياه الوطنية بالمملكة العربية السعودية لمشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتكلفة قدرها(700) مليون ريال على نفقته الخاصة (مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لسقيا زمزم)، والذي بدأ في تقديم خدمة غاية في الأهمية لزوار بيت الله الحرام، ومدينة مكةالمكرمة في الحصول على عبوات زمزم بشكل آلي تبدأ بشرائهم العملات الممغنطة (فيشات) من خلال نوافذ التحصيل ثم ينتقل الراغب في المياه إلى نقاط التوزيع الآلية. ماء زمزم هذا النبع العجيب في كمية الإنتاج وفي الطعم والصفات، ومن أغلى الهدايا التي يحملها الحجاج والمعتمرين لأهلنا في السودان، ليس قيمة الفيشات هي قيمة للمياه ولكن لتغطية تكلفة التعبئة والتشغيل فماء زمزم لا تضاهيها قيمة. إن إصرار مسؤولي مياه الخرطوم علي المضي قدماً في تطبيق تثبيت عدادات المياه ذات الدفع (الرباعي) في هذا الوقت الذي تمر به البلاد، ويمر به العباد في منحنيات حادة، بدون شك لن تجد التجاوب مع المواطن وتكون صيحاتهم كالذي يحرث في البحر، فقد اعتادت حكومات الولايات أن تسعى للمواطن ليس لتقديم الخدمات ذات المستوى الرفيع لترتقي بإنسان الولاية ولكنها اعتادت أن يدفع المواطن أولاً ثم يبحث عن الخدمة، اعتادت على الرضاعة في جميع أعمارها. سئل سلمان الفارسي رضي الله عنه يوماً ماذا يبغضك في الإمارة؟ فأجاب حلاوة رضاعتها ومرارة فطامها، اللهم اسقينا من الكوثر، واحمنا من فيضان النيل (الخالد).