حسب العلوم الإنسانية التقليدية العملية حل أي قضية أو أزمة لا يخرج عن ثلاث وسائل لا رابعة لها- الغلبة لطرف واحد Domination، التراضي بالتكامل integration وأخيراً بالحل الوسط Compromise الوسيلة الأولى كما في المحاكم نصر وهزيمة وعدم رضا طرف.. الحل الوسط يفضي إلى عدم رضا الطرفين، بهذه الصفة غالباً ما يعيد الأزمة إلى المربع الأول.. الحل الصعب المثالي هو التراضي بالتكامل الموضوعي والذي يقود إلى الحل الجذري المستدام. أزمة أبيي أزمة شائكة تم تدويلها تماماً في اتفاق نيفاشا في 26/5/2004 المعدل في اتفاق أديس أبابا الأسبوع الماضي 20/6/2011م. أزمة أبيي في الأساس هي نتيجة لصراع تقليدي معروف في كل العالم ومنذ القدم هو صراع معروف وموجود حتى الآن في كل الدنيا بين الرعاة الرحل بحثاً عن الماء والكلأ، وبين المزارعين المستقرين في مناطقهم وكل مشاكلها كانت تحل ودياً وبالتراضي والتعويضات. تعقدت أزمة أبيي حتى تم تدويلها لأربعة أسباب: أ- ضم الاستعمار الإنجليزي لتسع عموديات من قبيلة الدينكا نقوك بمديرية كردفان في العام 1905. ب- بروتوكول أبيي في مايو 2004 في نيفاشا والذي وضع مبادئه الرئيسية وبنوده السيناتور الأمريكي دان فورث في 19/3/2004م.. هذا البروتوكول به كثير من الغموض والتناقض في بنوده خاصة فيما يتعلق بتحديد ساكني أو مواطني أبيي كما سنرى. ج- اتفاقية السلام الشامل في 2005 والتي منحت الجنوب حق الانفصال. د- موافقة المؤتمر الوطني على اللجوء للتحكيم الدولي. في اعتقادي أن الاستعمار سعى في عام 1905 إلى ضم العموديات التسع لدينكا نقوك إلى مديرية كردفان- كما كانت تسمى الولايات- لتخفيف التوتر الموسمي الذي يحدث بين المسيرية الرحل والدينكا، وللتداخل الجغرافي ولعمق العلاقات الطيبة بين زعماء الإدارة الأهلية المتعاقبة مثال الناظر بابو نمر والسلطان دينق مجوك والد السفير فرانسيس دينق. هذا الضم للعموديات التسع ظهرت آثاره الجانبية السالبة عبر السنين خاصة عند تقليص سلطات الإدارة الأهلية منذ مايو 69. بروتوكول أبيي الذي أعده السيناتور دان فورث في 19/3/2004 وقدمه إلى الأستاذ علي عثمان والراحل جون قرنق، أصبح بروتوكول أبيي الذي تم توقيعه في نيفاشا في مايو 2004 وأصبح جزءاً أصيلاً في اتفاق السلام الشامل الموقع في يناير 2005م، هذا البروتوكول في مادته الأولى من المادة الأساسية يبدأ بداية طيبة متحدثاً عن أن أبيي هي جسر بين الشمال والجنوب، يربط مواطني الشمال والجنوب، ثم في الفترة التالية يبدأ الغموض والتناقض، إذ يقول في الفقرة 2- 1- 1 يعرف إقليم أبيي بالمساحة التي فيها عموديات دينكا نقوك التسع والمحولة في 1905 إلى مديرية كردفان.. وفي فقرته التالية 3 - 1- 1 يقول المسيرية والمواطنون الرحل الآخرون يحتفظون بحقهم التقليدي في طعام وشرب ماشيتهم وتحركهم في إقليم أبيي المعرّف في 2 - 1 - 1 في هذا غموض متعمد يثبت أن منطقة أبيي جنوبية. في مادة الفترة الانتقالية- المادة 2 - 1، وهي الفترة منذ يناير 2005 حتى اليوم، في الفقرة 1 - 2 - 1 يُعرف ساكنو أبيي بأنهم مواطنو غرب كردفان وبحر الغزال، وهم من يديرون منطقة أبيي بواسطة مجلس تنفيذي منتخب بواسطتهم، وهم بنفس التعريف من يصوتون في استفتاء تقرير مصير أبيي بعد نهاية الفترة الانتقالية، المادة 3 - 1 والاستفتاء تحديداً على بقاء أبيي في الشمال بوضعها الخاص كما في الفترة الانتقالية أو تكون منطقة أبيي جزءاً من بحر الغزال. بكل أسف يتواصل الغموض والضبابية المتعمدة في بروتوكول أبيي وهو جزء لا يتجزأ من اتفاقية السلام الشامل في مادته الخامسة تحت عنوان تحديد الحدود الجغرافية في الفقرة 1- 5 تقول تنشأ مؤسسة الرئاسة مفوضية حدود أبيي لتعريف وترسيم المساحة التي كانت بها التسع عموديات دينكا نقوك والتي تحولت إلى كردفان عام 1905 ويشارك بمنطقة أبيي في هذا البروتوكول. يصل التعارض والغموض ذروته في المادة 6 من البروتوكول تحت عنوان «ساكنو المنطقة»، تحدد الفقرة 1 - 6 أن ساكني منطقة أبيي هم: أ- 1 - 6 - أعضاء عموديات دينكا نقوك والسودانيون الآخرون الساكنون في المنطقة.. وفي ب- 1 - 6 معايير السكن في المنطقة تحددها مفوضية الاستفتاء. وفي المادة 2 - 6 تقول صراحة ساكنو أبيي هم مواطنو غرب كردفان وبحر الغزال. بالنظر إلى هذه المادة يتضح التناقض والغموض، فتارة يشير إلى أن ساكني منطقة أبيي هم دينكا نقوك والآخرون وتارة أخرى في نفس المادة يقول ساكنو أبيي (دون كلمة منطقة)، هم سكان غرب كردفان وبحر الغزال.. ولم يذكر المسيرية صراحة إلا في السماح لهم بالحق المكتسب التاريخي في المرعى في المادة الأولى من البروتوكول المباديء الأساسية، بينما في كل ما تبقى من البروتوكول الإشارة لهم جغرافياً فقط.. لكن المهم جداً أن المادة 8 من البروتوكول لعنوان مفوضية استفتاء أبيي الفقرة 2 - 8 تحدد صراحة من يحق لهم الاستفتاء وهي تقول «ساكنو أبيي يحق لهم الإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء.».. وساكنو أبيي معرّفة كما أسلفنا في الفقرة 1 - 2 - 1 هم مواطنو غرب كردفان وبحر الغزال في أبيي، لذلك نجد أن كل المسيرية لهم ألف حق في التصويت في الاستفتاء إذا أخذنا بهذه المواد وهذا التعريف الجغرافي. وأيضاً الدينكا أنقوك لهم ألف حق إذا أخذوا بالفقرة 2 - 1 - 1 والتي تحدد منطقة أبيي بالمنطقة التي كان يسكنها مواطنو عموديات دينكا نقوك قبل 1905 وأن المسيرية لهم حق المرعى والمسارات التقليدية فقط كما في الفقرة 3 - 1 - 1 اتفاقية السلام الشامل، والتي أفرزت وسمحت بالانفصال في يوليو 2011 وعمقت الأزمة وأضافت ظلالاً كثيفة على مسألة الحدود وبعداً جديداً للأزمة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حتى وصلت إلى حافة الحرب الشاملة واستيلاء الجيش السوداني على أبيي، الأمر الذي أدى إلى تدخل دولي جديد في 20/6/2011 بتعديل بروتوكول أبيي، وذلك بسحب كل الصلاحيات الأمنية من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية واستبدالها وتحويلها إلى قوة دولية أثيوبية حديثة التسلح، قوامها ثلاثة إلى خمسة آلاف جندي بقيادة لواء أو فريق من الجيش الأثيوبي. الأمر الأخير الذي لم يوفق فيه المؤتمر الوطني هو الموافقة على تحويل أزمة أبيي إلى التحكيم الدولي، والذي أصدر حكماً لم يرضِ المسيرية وقُبل على مضض من الحركة الشعبية، لأنه أغضب المسيرية أكثر وفي تقديري كان ذلك خطأ إستراتيجياً، لأن في بروتوكول أبيي مساحة كبيرة للمناورة، والغريب في الأمر أن التحكيم الدولي دائماً بين دولتين ولكن أن تتطلب دولة واحدة التحكيم كان أمراً غريباً.. ولكن ولحسن الحظ فقد أتاح الاتفاق الأخير في أديس في 20/6/2011 في مادته الثانية في المقدمة، مساحة معقولة للخروج من مطب التحكيم الدولي، إذ تقول المادة 2 بنود هذه الاتفاقية يجب أن لا تمس الوضع النهائي لمنطقة أبيي كما حددتها محكمة التحكيم الدائمة إلا إذا تم تعديلها بالبنود في الاتفاق هذا.. هذه الاتفاقية تحترم كل ما جاء في بروتوكول أبيي وأن حدود الأول من يناير 1956 بين الشمال والجنوب غير قابلة للتعديل ما لم يتم تعديلها كنتيجة لما سيحدث من نتائج استفتاء أبيي أو حسب بروتوكول أبيي الأصلي أو قرار آخر يتفق عليه الطرفان (المؤتمر والحركة)، للوضع النهائي لأبيي.. أو هذه تفتح الباب مشرعاً للعودة إلى مائدة المفاوضات السلمية المفضية إلى الحل المستدام. ختاماً ومما تقدم يظهر جلياً أن بروتوكول نيفاشا الخاص بمنطقة أبيي به كثير من الغموض والتناقض والضبابية الرمادية، لا يمكن به الوصول إلى سلام مستدام وهو الذي أدى إلى اللجوء للتحكيم الدولي وإلى الحرب الأخيرة والتدخل الدولي الجديد، علينا أن نستثمر ما أتاحه لنا الاتفاق الأخير في مادته الثانية في المقدمة لتقليص فترة بقاء القوات الأممية في السودان والحل الودي البلدي عبر إعادة التناغم التاريخي بين قبيلتي المسيرية والدينكا نقوك الذي عاش مائة عام منذ 1905 حتى 2005م، والعمل بالمثل الإنجليزي الذي يقول: «Dont Prolong Agony» «لا تطيل المعاناة». مهندس مستشار