احتفلت حكومة جنوب السودان يوم 9 / 7 / 2011م باستقلالها التام عن شمال السودان الذي يمثل آخر مستحقات اتفاقية السلام الشامل أو اتفاقية نيفاشا وهي اسم ضاحية كينية تم فيها توقيع الاتفاق الذي امتدت المفاوضات فيه لمدة تجاوزت المائة يوم بين الاستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية عن حكومة الخرطوم ود. جونق قرنق رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان وصلت نهاياتها في العام 2005م بعد أن كانت بدايتها في العام 2003م بدأت بمشاكوس وانتهت بنيفاشا. وقبل ان نخوض في اتفاقية السلام الشامل لابد لنا ان نغوص في بحر مشكلة الجنوب التي بدأت فصولها على جزئين الأول بدأ في عهد الاستعمار الانجليزي المصري 1899م وانتهى في الصياغة الاخيرة التي نعيشها الآن في نيفاشا 2005م. إجراءات فصل الجنوب: في يناير/ كانون الثاني 1930م وجه السكرتير الإداري لحكومة السودان تعليمات إلى مديري المديريات الجنوبية تضمنت الإجراءات التنفيذية للسياسة الجديدة، وقد شملت جانبين: الجانب الأول: تضمّن بناء سلسلة من الوحدات العنصرية أو القبلية ذات الهياكل والنظم القائمة على التمايز العنصري والديني. على أن يتم ذلك بإبعاد الموظفين المتحدثين بالعربية ولو كانوا جنوبيين، وجعل الإنجليزية لغة المكاتبات الرسمية بالنسبة للكتبة، وكذلك جعلها لغة الأوامر العسكرية ولغة التخاطب مع العمال والخدم، بل وتفضيل استخدام المترجمين بدلاً من الاستعانة بالعربية. وحصر هجرة التجار الشماليين وتشجيع التجار اليونانيين والسوريين المسيحيين. الجانب الثاني: تضمّن تحديد وسائل قياس التقدم في تنفيذ السياسة المذكورة بإعداد جدول سنوي يوضح في جانب منه عدد المسلمين بالنسبة لمجموع موظفي الحكومة في الجنوب، ثم عدد الموظفين البريطانيين الذين أجادوا تعلم اللغات المحلية، يلي ذلك تطور عدد التجار الشماليين في الجنوب، بعدها عدد المدارس التنصيرية والأموال التي تنفقها الحكومة على التعليم. وبعد وضع خطة لا لتعريب جنوب السودان في أدق تفاصيلها بقي تنفيذها الذي تطلب أولاً مسح الوجود العربي الإسلامي في الجنوب. وتضمن الجانب الثاني من الإجراءات ما كان متصلاً بالتخلص من الوجود الثقافي العربي، وقد ظلت عملية الفصل نشطة خلال السنوات التالية. في عام 1929م حين بدأ التخطيط بجد لفصل الجنوب عن الشمال، كان هناك أربع إرساليات تنصيرية تعمل في المديريات الجنوبية تشرف على ثلاث مدارس وسطى و30 مدرسة أولية فيها 1907 تلاميذ. وفي عام 1931م أقامت الإرسالية الكاثوليكية مدرسة لتدريب المعلمين في توريت بمديرية منقلا، زادت في العام التالي خمس مدارس للبنات، وثلاث مدارس حرفية، ومدرستين لتخريج معلمي المدارس الأولية، هذا فضلاً عما أسماه الإنجليز مدارس الشجرة Tree Schools التي أقيمت في القرى، ويقوم على التدريس فيها معلم من أبناء القرية نفسها. فضلاً عن ذلك فقد تم استخدام لهجات الجنوب بعد أن تحولت إلى لغات مكتوبة، فوضعت أسس قواعد لغات الباري واللاتوكا والشلك والدينكا والنوير. ففي عام 1931م تم طبع كتابين بلغة الزاندي، ومثلهما بلغة الباري، وأربعة بلغة الدينكا، وواحد بكل من لغات النوير والكريش والمورو واللاتوكا، الأمر الذي استمر في تزايد خلال السنوات التالية. المرحلة الثالثة: الحصاد المُر (1949م-1955م) اقتنعت بريطانيا بعد التخلف الذي ساد الجنوب بسبب سياستها هناك؛ بأن العوامل الجغرافية والاقتصادية تحتم وحدة الشمال مع الجنوب كي يستطيع الجنوبيون الاعتماد على أنفسهم ويكونوا أنداداً متساوين اجتماعياً واقتصادياً مع شركائهم وزملائهم من الشماليين. أثناء الحرب العالمية الثانية وبعد إنشاء المجلس الاستشاري لشمال السودان كتب مدير المديرية الاستوائية يوم 14 أغسطس/ آب 1943م طالباً إعادة النظر في السياسة المتبعة في الجنوب، وكتب مدير المعارف في العام التالي ما مؤداه أن سياسة الحكومة في جنوب السودان قد أدت إلى تخلفه إذا ما قورن بالشمال. في العام التالي وجه الحاكم العام بالسودان مذكرة للسفير البريطاني في القاهرة طالب فيها بضرورة البحث في مصير الجنوب، إما بالاندماج في الشمال أو الاندماج في شرق أفريقيا أو دمج بعضه في هذا الجانب ودمج البعض في الجانب الآخر. وفي عام 1946م وبعد اتباع سياسة السودنة تشكلت لجنة للنظر في إمكان تنفيذها في الجنوب فوضعت تقريراً أدانت فيه بشدة سياسة الحكومة الجنوبية، وطالبت بإلغاء تصاريح التجارة، واتباع سياسة موحدة للتعليم في الشمال والجنوب، وتعليم اللغة العربية في مدارس الجنوب، وتحسين وسائل الاتصال بين الجانبين، وتشجيع انتقال الموظفين بين الشمال والجنوب وتوحيد النظم بينهما ، الأمر الذي يتطلب البحث في الأسباب التي أدت إلى الانقلاب في السياسة البريطانية تجاه جنوب السودان، وهو ما شرحه التقرير بالتفصيل. * أسباب انقلاب السياسة البريطانية: الأول: ما أسماه التقرير التحولات الهامة في الجو السياسي للقطر كله ، وأخطرها ظهور عدد غير قليل من الأحزاب السودانية يدعو أغلبها لوحدة وادي النيل، وأقلها مثل حزب الأمة الذي تأسس عام 1945م يدعو إلى استقلال السودان بكامل حدوده الجغرافية. وكان الاستمرار في السياسة القديمة يمد دعاة الاتحاد بحجة قوية لمعاداة الوجود البريطاني، ويوقع دعاة الانفصال عن مصر في موقف صعب. الثاني: ونتج عما اتضح من إخفاق الخطط الخاصة بإنشاء شبكة مواصلات بين شرق أفريقيا وجنوب السودان، إذ توقف نجاح هذه الخطط على الخزان الذي كان مزمعاً إنشاؤه على بحيرة ألبرت، ولم يعد مع ذلك من مندوحة بتوجيه تجارة الجنوب إلى الشمال بعدما أخفق الخيار الأول. الثالث: وهو سبب تعليمي، فقد رأى البريطانيون أن إقامة مدرسة ثانوية في الجنوب يمثل أقصى المتاح، ولكن ماذا عن أبناء الجنوب الراغبين في مزيد من التعليم بعد المرحلة الثانوية، الإجابة كانت في كلية غوردن بالخرطوم، وأنه لابد مع هذا الاحتمال من تعليم طلاب المرحلة الوسطى وما بعدها اللغة العربية. وعرض التقرير أخيراً للاختلافات القائمة في الأجور وشروط الخدمة وضرورة استخدام الشماليين في مشاريع التنمية بالجنوب، وانتهى إلى القول إن سياسة حكومة السودان قامت على أساس أن الجنوبيين يتميزون بأفريقيتهم وزنجيتهم، لكن العوامل الجغرافية والاقتصادية تحتم وحدتهم حتى يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم في المستقبل، ويكونوا أنداداً متساوين اجتماعياً واقتصادياً مع شركائهم وزملائهم من السودانيين الشماليين. وكان الأخذ بما جاء في هذا التقرير يعني التخلي عن السياسة الجنوبية القديمة، وهو ما حدث أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، وما تبع ذلك من إجراءات أدت إلى انفجار الوضع في الجنوب. فقد تم بعد عام 1948م تغير ملحوظ في السياسة التعليمية في الجنوب، حيث أقيمت أول مدرسة ثانوية، وأبطل إرسال طلاب المدارس العليا الجنوبيين إلى كلية ماكريري في أوغندا التي استبدلت بكلية غوردن في الخرطوم، في نفس الوقت أقرت الجمعية التشريعية خطة السنوات الخمس للتعليم في الجنوب، وكلف معهد التربية في بخت الرضا بتخريج المدرسين اللازمين للجنوب. وكان هناك بعد ذلك ما ترتب على عقد اتفاقية فبراير 1953م بين مصر وبريطانيا لتقرير مصير السودانيين والتي ترتب عليها نتائج عكسية على الجنوب، كان منها غضب الجنوبيين من أنه لم يسمع أحد من المتفاوضين لمعرفة آرائهم، ثم ما جرى في الانتخابات التي أعقبت المعاهدة من إسراف للوعود التي قطعت لهم، سواء من جانب الأحزاب الشمالية أم من جانب المصريين، وهي الوعود التي لم يتحقق منها شيء. ووصلت الشكوك إلى ذروتها عندما بدأ الشماليون عام 1955م في إعادة تنظيم القوات العسكرية، وتقرر نقل بعض مجموعات الفرقة الاستوائية إلى الشمال، الأمر الذي انتهى بتمرد هؤلاء، وهو التمرد الذي كان بداية لتفجر مشكلة الجنوب ثم تحولها بعد ذلك وتحت الحكم العسكري الذي حكم السودان منذ عام 1958م وحتى يومنا هذا، لتصبح بمثابة الحصاد المر للسياسة الاستعمارية في جنوب السودان. فصولُ مسرحيةِ التمهيدِ للتقسيم... بعد خروج جيش المستعمر لقد تركت بريطانيا مشكلة الجنوب إسفيناً أشغلت السودان به على مر العقود التالية للاستقلال، وقد وضعت بذرة انفصال الجنوب عن الشمال قبل أن تخرج من السودان، ثم رعت الدول الغربية هذه البذرة وسقتها لدرجة لم تختلف نظرة عملاء بريطانيا من الحكام أو عملاء أميركا إلى أن للجنوب وضعاً خاصاً، فالجميع أقروا بضرورة الانفصال بشكل من الأشكال ولكن الاختلاف كان في الأساليب. لقد تطورت قضية الجنوب في ظل الحكومات المتعاقبة على حكم السودان على عدة فصول، ولعب عملاء الكافر المستعمر دورهم بإحكام وخبث، فنفذوا سيناريوهات المستعمر الخبيثة أيما تنفيذ... وتم الانتقال من فصل لفصل لتستمر مسرحية التمهيد لتقسيم بلد إسلامي عظيم هو السودان، وأبرز هذه الفصول هي: مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965م اتفاقية أديس أبابا 1972م. اتفاقية كوكدام - الصادق قرنق 1986م. اتفاقية الميرغني - قرنق 1988م. مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995م. إعلان مبادئ الإيقاد عام 1994م ، ثم بروتوكول ميشاكوس عام 2002م. اتفاق (السلام الشامل) المشهور باتفاق نيفاشا عام 2005م