محمد وداعة يكتب: المسيرات .. حرب دعائية    مقتل البلوغر العراقية الشهيرة أم فهد    إسقاط مسيرتين فوق سماء مدينة مروي    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    كهرباء السودان: اكتمال الأعمال الخاصة باستيعاب الطاقة الكهربائية من محطة الطاقة الشمسية بمصنع الشمال للأسمنت    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    أمس حبيت راسك!    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جذور مشكلة جنوب السودان... و مآلات حقيقة الوحدة... وزيف الانفصال(1-3)
نشر في الصحافة يوم 04 - 10 - 2010

تحبو الأيام و تتدحرج كرة الثلج مقتربة من يوم الاستفتاء حول تقرير المصير في جنوب السودان، وبالتأني في قراءة سناريو الواقع هذه الأيام تشعر بأن هناك من ققز على النتائج وجعلها تبدو وكأن الإنفصال أصبح المآل الحتمي لجنوب السودان، رهان خاسر لامحالة بدا باكراً وربما انطوى على الاعتقاد السائد في كثير من الأوساط، والذي أكدت عليه بعض الترشيحات التي أطلقتها بعض القوى السياسية الخائرة التي تقف متفرجة بعيدة عن (المعمعة) رغم الدعوات المتكررة التي أطلقها رئيس الجمهورية،مراميها في ذلك الكيد السياسي الرخيص والهوى المبتزل ، ناسية مانحن فيه من مفترق طرق يستدعي الكياسة والحذاقة ولم الشمل في بوتقة الوطن الكبير وعدم الاندفاع وراء مزالق غير محسوبة النتائج ، وتحميلها المؤتمر الوطني المسؤولية التاريخية التي هي جزء أصيل فيها ، تجأر بعض الأصوات منادية بالانفصال جنوباً وشمالأً، بيد أنها في زيادة في أوساط الجنوبيين، وهناك من حكماء الجنوب يقدمون خيار الوحدة على الانفصال مدركين تماما أن تقسيم السودان من شأنه أن يفضي إلى مأزق قاري أفريقي يجتر المبدأ القديم ( فرق تسد) وهزاته الارتدادية ومطالبات كثيرة في محيطنا تطفو على السطح تبدأ بعد ذلك (تصرخ بالصوت العالي) بالانسلاخ من الجسد الأم للدولة ومركزيتها ، وهناك الكثير من ينظر إلى تجربة جنوب السودان ومخرجاتها ... وبالعودة إلى منشأ وجذور المشكلة كان ذلك منذ 19 يناير 1899 بعيد توقيع اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا والجنوب يسير وفق خطة استعمارية تستند على مبدأ فرق تسد إذ بدأت الإدارة البريطانية تحضر الجنوب ليكون متميزاً عن الشمال الجغرافي انطلاقا من الاختلافات العرقية والإثنية والدينية والجغرافية بين الشمال والجنوب ، واستغلت بريطانيا هذه الاختلافات وخطورتها من أجل خلق جنوب غير قادر على التعايش مع الشمال إن لم يحدث الانفصال ويجسده عمليا إن لم يكن قانونياً وأول خطوة عملية في هذا المخطط الاستعماري البغيض، شكل البريطانيون في عام 1917م ما يسمى ( بالفرقة الاستوائية ) وأبعدت الحامية الشمالية التي كانت تجسد ارتباط الجنوب بالشمال ويبدو أن مدير المخابرات العسكرية في الجيش البريطاني وينجت الذي أصبح حاكماً على السودان قد أراد بحسه المسيحي المتعصب أن يحد من انتشار الإسلام في الجنوب خاصة بعد ما تبين له أن أبناء الجنوب الوثنيين هم عنصر صالح لاعتناق الديانة المسيحية ناهيك عن اعتقاده بأن هذه القوة الأفريقية الاستوائية يمكن أن تقف مستقبلاً في وجه أي مد عروبي إسلامي في السودان قاطبة .
ففي عام 1918 صدر من قبل الإدارة البريطانية قراران :- الأول يقضي باعتبار يوم الأحد عطلة رسمية في كل أنحاء الجنوب .. والثاني يقضي باعتماد اللغة الإنجليزية لغة رسمية لأبناء الجنوب ، وفرض التخاطب بها داخل الفرقة الاستوائية .... ثم صدر قرار آخر بتعليم الأهالي في الجنوب اللغة الإنجليزية ...واستمرت الإدارة البريطانية في تنفيذ مخططها الرامي إلى خلق كيان مميز في الجنوب منفصل فعلياً عن الشمال ، وساعدت في ذلك الجمعيات والهيئات التبشيرية العاملة في الجنوب والتي كان لها نشاط ملحوظ في مجال تقديم الخدمات التعليمية والصحية والتوسع بها عن طريق تشكيل لجان استشارية لهذا الغرض في عام 1924 وهو العام الذي شهد عودة الدول الاستعمارية القديمة والمعروفة باستغلال ثروات الشعوب وقمع حركات التحرر الوطني ، وبذر الفرقة والانقسام والتجزئة داخل الوطن الواحد وذلك بعد موت فكرة التصالح والتعاون التي سادت العالم بعد مؤتمر فرساي.
عملت الحكومة البريطانية على الانفراد بحكم السودان وتنفيذ خطة فصل الجنوب عن الشمال ، وبينت ( لجنة ملنر ) التي وضعت تقريراً عن السودان بعد عام 1924ه أن سياسة حكومة السودان البريطانية ترمي إلى فصل الجنوب عن الشمال وإيجاد ارتباط بين الجنوب وبين احد الدول في وسط أو شرق إفريقيا ..وبالرغم من أن التقرير لم يدعُ رسمياً إلى فصل الجنوب عن الشمال إلا أنه بارك السياسة المتبعة من قبل حكومة السودان البريطانية التي تعمل جادة على خلق الشخصية الجنوبية تمهيداً لإقامة كيان سياسي يكون جاهزاً وقت الإعلان عن نية الإدارة البريطانية في فصل الجنوب ولذلك لم تظهر في تقارير الإدارة البريطانية أية فكرة أو إشارة تدعو بوضوح إلى خلق دولة جنوبية مستقلة عن الشمال ، إلا أن الإدارة البريطانية نتيجة لتقرير ( لجنة ملنر ) فقد اتبعت الخطوات التالية في الجنوب :-
في عام 1921 لم تعد الإدارة البريطانية تطلب من حكام المديريات الجنوبية الثلاث حضور الاجتماعات السنوية لحكام المديريات السودانية التي كانت تعقد في الخرطوم ، وأستبدل باجتماعات سنوية لحكام المديريات الثلاث بالتنسيق مع نظرائهم في كينيا وأوغندا .
صدر في عام 1922 قانون جوازات السفر والمرور التي حظرت على أبناء الشمال والمصريين السفر والعيش في الجنوب ، وذلك من أجل الحيلولة دون إسلام الجنوب أو استعرابه بعوامل الاتصال والاختلاط.
وفي نفس العام صدر إعلان المديريات الثلاث كمناطق مغلقة ، وأصبح من حق الحاكم العام إعلان أية منطقة من مناطق السودان ( منطقة مغلقة ) والرجوع إليه في حالة إعطاء تصاريح لدخول هذه المناطق .
وفي عام 1925 صدرقانون تصاريح التجارة بعدم السماح لغير أبناء الجنوب بممارسة التجارة في الجنوب دون الحصول على تصريح يسمح لهم بالاتجار في ومع المديريات الجنوبية وهو قانون ممكن لإعلان المناطق المغلقة والهدف منه هو منع الشماليين في ممارسة أي نشاطها يمكن أن تتعارض مع إجراءات الإدارة البريطانية التي تخدم سياسة غير معلنة قد تؤدي إلى الانفصال النهائي للجنوب عن الشمال .
في مذكرات سير جيمس روبرتسون السكرتير الإداري السابق للسودان والتي نشرت في عام 1974 حول مقاصد هذه القوانين قال : إنها كانت تهدف إلى الحد من عدد التجار الشماليين في المديريات الجنوبية ( الجلابة ) وتقيد من تنقلهم .. وبالرغم من أن المواطن الشمالي العادي كان خارج نطاق تطبيق هذه القوانين إلا أن السلطات الإدارية لم تكن تشجعه على زيارة الجنوب .. وأن هذه القوانين قصد بها إقامة حاجز بين الجنوبيين و الشماليين .. وبذر الكراهية بين الشمال والجنوب .. وأنه كان من المأمول أن يتطور أبناء الجنوب خلف هذا الحاجز حتى يصلوا إلى مستوى الشمال ولكن ذلك لم يحدث .
بالرغم من أن آثار هذه الإجراءات على الجنوب كانت منارة بوضعه الاقتصادي والاجتماعي نتيجة لتضييق الخناق على التجار وتقليل التفاعل والتعامل التجاري وفقدان الخبرات التجارية التي يتمتع بها التجار الشماليون إلا أن الإدارة البريطانية سارت في تنفيذ سياساتها غير المعلنة في الجنوب وهي سياسة لا نستطيع أن نقول بأن العمل بها لم يكن سياسة محددة وضعت من أجل تنفيذ أهداف معينة .. بل هي سياسة احترازية لمواجهة احتمالات ا لمستقبل من وجهة نظر استعمارية بحتة أسفرت عن نتائج عكسية أخرت بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب .
في 25 يناير 1930 وجه السكرتير الإداري سيرهارلود ماكمايكل مذكرة إلى الإداريين البريطانيين العاملين بالجنوب وإلى رؤساء الدوائر الحكومية أكد فيها على أن سياسة الحكومة في الجنوب ترمي إلى قيام وحدات عرقية وقبلية مستقلة تستند على العادات المحلية والعرق والمعتقدات القبلية بالجنوب .. وحددت المذكرة السياسة والإجراءات المطلوبة للتنفيذ وكانت السياسة على النحو التالي :-
- إنشاء وحدات قبلية وعنصرية لكل منها اكتفاؤها الذاتي مستندة إلى العادات والتقاليد والموروثة في الجنوب ( وهذا يعني تفتيت الجنوب إلى دويلات ) .
- تأهيل كادر من العاملين لا يتحدث اللغة العربية مع استبعاد الإداريين والفنيين من أبناء الشمال عن مناطق الجنوب وإحلال أبناء الجنوب محلهم .
- منع استخدام اللغة العربية وتشجيع استخدام اللغة الإنجليزية رسمياً وشعبياً في حالة تعذر استخدام اللغة المحلية للتخاطب بين أبناء الجنوب .
وقد عقد بالرجاف في عام 1928 مؤتمر خاص باللغات واللهجات حضره ممثلون من حكومة السودان البريطانية وحكومة يوغندا وحكومة الكنغو البلجيكي والجمعيات التبشيرية في هذه الدول الثلاث وحضره بروفيسور ( وستر مان ) من معهد اللغات واللهجات الأفريقية وقد أوصى هذا المؤتمر باختيار بعض اللهجات الرئيسية لتطويرها واستخدامها كوسيلة للتعلم والتخاطب في الجنوب بجانب اللغة الانجليزية ، وجاء في الفقرات الختامية للمذكرة أن الحد من استخدام اللغة العربية عنصر أساسي في السياسة الجنوبية إلا أن استخدامها سيضمحل تدريجياً لأنها ليست لغة الحاكمين أو المحكومين ، ثم نبه إلى ضرورة محاربة الاعتقاد السائد في أوساط الجنوبيين بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية التي يتخاطبون بها فيما بينهم رغم أنها الحقيقة التي لا جدال فيها ..
حظر ومنع الملابس العربية أو بيعها أو لبسها في الجنوب وإجبار أبناء الجنوب على الزي الأوروبي .
ركزت البعثات والجمعيات التبشيرية في تعاملها مع المتنصرين فقط من أبناء الجنوب وقدمت لهم الخدمات الطبية والعناية الاجتماعية المطلوبة .
منعت الإدارة البريطانية ممارسة العادات العربية والإسلامية في الجنوب مثل الطهارة ( الختان ) والزواج بين أبناء الشمال والجنوب.
عملت الإدارة البريطانية على نقل أبناء الشمال العاملين في الجنوب إلى مناطق أخرى في الشمال ، وقد أثر هذا الإجراء على كفاءة الكادر العامل في الجنوب نظراً لحاجته إلى الكفاءات الإدارية غير المتوافرة لدى الجنوبيين .
قامت الإدارة البريطانية بنقل الشماليين من قوة الشرطة ومنعتهم من التدريس والعمل في أي مجالات في الجنوب وتم استبعاد الضباط الشماليين في الفرقة الاستوائية .
فتحت الإدارة البريطانية فصول تعليم للغة الإنجليزية لرجال الشرطة الجنوبيين ودفعت مرتبات أعلى لمن وصل إلى مستوى جيد في تعليم اللغة الإنجليزية .
مارست الإدارة البريطانية سياسة عدائية خطيرة ضد الثقافة العربية فعملت على إبعاد الناطقين بها عن الجنوب جماعات وأفراداً بدعوى تقليل خطر انتشارها بين أبناء الجنوب الذين تأثروا بإخوانهم أبناء الشمال .
لم تكتفِ الإدارة البريطانية بمحاربة اللغة العربية وإنما امتد عداؤها إلى الإسلام فمنعت ممارسة شعائر الدين الإسلامي في الجنوب ، ونشطت مراكز التبشير الإيطالي الكنسي والحد من انتشار اللغة العربية بالتنسيق مع الإدارة البريطانية ومجلس الحاكم في الخرطوم ، ومنع أبناء الجنوب من تسمية أبنائهم بالأسماء العربية والإسلامية .
لقد شهدت السنوات في تلك الحقبة تطبيقا دقيقاً لهذه الإجراءات والقوانين تمهيدا لعملية كبرى لم يكن أحد يعرفها ولم يعلن عنها مباشرة ، واستطاعت الإدارة البريطانية بسط سيطرتها الكاملة في عام 1932 بعد قيامها بحملات تأديبية مكثفة استهدفت بصفة رئيسية قبائل النوير والدينكا والتبوسا واللاتوكا ولم يحدث ما يشير إلى تداخل وتفاعل سياسي بين الشمال والجنوب مثل ما حدث من تفاعل وتداخل في الشمال بين العناصر ذات الأصول الزنجية والعناصر ذات الأصول العربية العاملة في الوحدات السودانية التابعة إلى الجيش المصري والذي أثمر عن تكوين جمعية اللواء الأبيض التي فجرت ثورة 1924 بقيادة على عبد اللطيف وهو من أبناء الجنوب وينتمي لقبيلة الدينكا .
بعد تأسيس مؤتمر الخريجين قام المؤتمر بدور وطني فأدان السياسة البريطانية التي استهدفت فصل الجنوب عن الشمال إلا أن محاولات الخريجين لم تتغير من السياسة البريطانية وذلك لعناد الإدارة البريطانية التي سارت وفق هذه الإستراتيجية الاستعمارية والتي أوضحتها في مذكرتها التي بعثتها إلى المندوب البريطاني السامي في القاهرة فباركها وأوصى الحكومة البريطانية بالموافقة عليها ... وبدأ الخريجون نتيجة لهذا العناد في إيجاد صلة مع أخوانهم المتعلمين من أبناء الجنوب والذين كانوا آنذاك قلة قليلة مكنتهم من شن هجوم مركز من جميع الاتجاهات على السياسة البريطانية مركزين على الأضرار التي لحقت بالجنوب نفسه من جراء هذه السياسة إلا أن الإدارة البريطانية اتخذت تجاه الجنوب بعدا جديداً في عام 1943 عندما أنشأت المجلس الاستشاري لشمال السودان والذي كان الغرض منه استشارة أشخاص لهم صفة تمثيلية تمكن الحاكم العام من إدارة السودان الشمالي وهذا يعني أن سلطات هذا المجلس استشارية فقط لا تشمل الجنوب .. وقد برر سير دوغلاس نيوبولد ذلك بقوله إن أهل الجنوب ليسوا مؤهلين بعد للتمثيل في المجلس .. فقاطعت الاتجاهات الاتحادية التي تدعو إلى الاتحاد مع مصر المجلس الاستشاري واعتبرته مظهراً من مظاهر سياسة فصل الجنوب عن الشمال وشاركت فيه الاتجاهات الاستقلالية التي تدعو إلى السودان للسودانيين بزعامة حزب الأمة لتتخذه نواة للعمل السياسي الإيجابي بالرغم من إيمانها بأن قصد ومحدودية سلطات هذا المجلس على الشمال فقط تدل على سوء نية الإدارة البريطانية .
حسب اعتراف المستر ( كوكس ) الذي عين مديراً للتعليم في الجنوب فقد تبين أن سياسة حكومة السودان البريطانية في الجنوب قد أدت إلى تخلف الجنوب لدرجة كبيرة وبعيدة عن مستوى الشمال مع أن أهم مبررات السياسة البريطانية في الجنوب كانت تعتمد على الادعاء بحماية الجنوب من الاستغلال الشمالي ، وقد قال سير الأسكندر كادوغان ممثل بريطانيا في مجلس الأمن عام 1947 إن التمييزات الإدارية التي اختطتها الإدارة البريطانية فيما مضى بين الجنوب وبقية أجزاء البلاد أملت الضرورة الإنسانية لحماية شعب بدائي أعزل من اسغلاله بواسطة أخوانه الأكثر تقدماً ( الشمال ) حتى يحين الوقت الذي يستطيع فيه أن يقف على قدميه ( الجنوب ) وأشار إلى أن شعب الجنوب لا يدين بالدين الإسلامي ولا يتكلم اللغة العربية ولا ينطق بها وليس بينه وبين الشمال أي صلة عنصرية ، وقد جاء ذلك عندما كان الممثل البريطاني يرد على إتهام رئيس وزراء مصر النقراشي باشا الذي قال متهماً بريطانيا بأنها اتخذت التدابير لفصل الجنوب عن الشمال وضمه إلى أفريقيا الشرقية البريطانية وضرب النقراشي باشا مثلاً لهذه التدابير بمحاربة اللغة العربية وتحريم الزواج بين أهل الشمال وأهل الجنوب وإنشاء مجلس إستشاري لشمال السودان الذي أنعقد في 22 ابريل 1946 برئاسة السكرتير الإداري سير جيمس روبرتسون أعتبر المجلس الاستشاري الخطوة الأولى نحو الحكم الذاتي وأنتقد أن يكون تمثيل المجلس الاستشاري قاصراً على المديريات الشمالية الست وانتقد وظيفة الاستشارية فقط ، ولذا أوصى مؤتمر إدارة السودان بتحويل المجلس الاستشاري إلى جمعية تشريعية تتألف من أعضاء سودانيين يمثلون السودان كله وأن تكون وظيفة هذه الجمعية تشريعية ومالية وإدارية بالأشتراك مع مجلس تنفيذي يحل محل مجلس الحاكم العام وأن تشمل سلطات الجمعية التشريعية السودان بكامله شماله وجنوبه وأكد المؤتمر على أن الغرض من ذلك ليس بسط سيطرة الشمال على الجنوب كما تدعي الإدارة البريطانية من قبل وإنما لأن مستقبل الجنوب مرتبط بالشمال ولن يحصل الجنوب على التقدم الاقتصادي والاجتماعي إلا إذا اتجه نحو أجزاء السودان الأخرى ، وسجلت أغلبية المؤتمر قراراً بإلغاء أمر رخص الاتجار لعام 1928 وأتباع سياسة تعليمية واحدة لكل السودان وتعليم اللغة العربية في مدارس الجنوب وتحسين طرق المواصلات بين الشمال والجنوب وتشجيع تنقلات الموظفين بين الشمال وتوحيد درجات الموظفين وكان من رأي المؤتمر أن هذه القرارات ستساعد على توحيد السودانيين وتضمن وحدة السودان ... ولاستطلاع وجهة نظر الجنوبيين والإداريين البريطانيين بعرض هذه القرارات على مؤتمر عقد في جوبا بتاريخ 12 يوليو 1947 برئاسة السكرتير الإداري (سير جيمس روبرتسون ) ودعا إلى حضور كافة حكام المديريات الجنوبية الثلاث ومدير الإنشاءات وسبعة عشر من زعماء قبائل الجنوب ورجال التعليم وستة فقط من أبناء الشمال وهم محمد صالح الشنقيطي ،وإبراهيم بدري، وحسن أحمد عثمان، ود . حبيب عبد الله ، وسرور رملي ،وشارك من الجنوبيين البارزين حسن فرتاك، وفليمون ماجوك، و كلمن أمبورو، وبوث ديو ،وجيمس طمبره ،والسلطان لوليك لادو وسريرو إيرو ....وبالرغم من الاتجاهات البريطانية المعادية لوحدة السودان والداعية إلى بذر بذور التجزئة بين الشمال والجنوب إلا أن الجنوبيين أظهروا وعياً عظيماً وسجلوا موقفاً وطنياً تاريخياً من خلال القرارات الهامة التي أصدروها والتي تتلخص في رفضهم لانفصال الجنوب عن الشمال ومطالبتهم بضرورة الحفاظ على وحدة السودان والتعجيل بقيام الوحدة السياسية بين الشمال والجنوب إلا أنهم أظهروا تحفظات حول طبيعة العلاقات المستقبلية بين الجنوب والشمال ، وأظهر البعض شكوكهم في نوايا الشمال وقلة قليلة طالبت بالانفصال وقد خلص المؤتمر إلى إقرار الوحدة السياسية شريطة توفير الضمانات الواجب أن يحصل عليها الجنوب من خلال العلاقة السياسية المقترحة بين الشمال والجنوب وبهذا الشرط وقع المؤتمرون في فخ الخطة البريطانية التي استندت على الادعاء بحماية الجنوب من الاستغلال الشمالي .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.