بالرغم من إدراكي الباكر، ومنذ عهد الطلب لأهمية علوم التاريخ لكل من أراد خوض غمار التحليل السياسي والكتابة على وجه العموم، إلا أنني لم أشعر في يوم بحجم الخطر الداهم الذي يشكله الجهل بالتاريخ على عقول بعض السياسيين كما استشعرته خلال الجدل الذي أعقب «حدث الانفصال» في التاسع من يوليو الحالي، فقد تباينت الرؤى وتضاربت الحجج حول هل جنوب السودان يشكل جزءً أصيلاً من «السودان الكبير»، أم هو مجرد «إضافة» فرضها، كما يقول البعض، من رسموا وقسَّموا الخريطة الأفريقية حسب الرؤية والقرار الاستعماري، وهي مقولة سائرة وسارية بين أوساط كثيرة ربما لم يتح لها تأهيلها الأكاديمي التدقيق في حقائق التاريخ، وقنعت بما رأته مرسوماً على الخارطة الجغرافية وما سمعته وطالعته من روايات عن الصراعات الاستعمارية -إنجلترا وفرنسا وبلجيكا- حول تبعية الإقليم في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وظنت أن ذلك هو كل شيء عن العلاقات الجنوبية-الشمالية. لم يقف هؤلاء مثلاً على البحوث الأثرية والأنثربولوجية وما تحمله من مؤشرات عديدة حول التداخل الإثني والتساكن بين العناصر المكونة لشعوب وقوميات السودان، لم يعودوا لتاريخ الفونج -أول مملكة كبيرة نشأت في الطرف الجنوبي للسودان الشمالي- ولم يسمعوا بالنظرية التي تربط حكام «السلطنة الزرقاء» بأصول «شلكاوية»، بينما تربطهم نظريات أخرى بأصول «أموية» وافدة من الجزيرة العربية، ولم يلقوا بالاً للعهد التركي -التركية السابقة- التي امتدت بنفوذها حتى الحدود اليوغندية بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي الكبير، كما لم يتوقفوا عند معارك قادة من أمثال كرم الله كركساوي في الثورة المهدية الذي كان معظم جيشه في بحر الغزال من أبناء الدينكا، كما لم يفهموا لماذا يختار الخليفة نفي من صنفهم معارضين لسلطته إلى جبل الرجاف جنوبيجوبا. بل أكثر من ذلك لم يستطيعوا هضم أو استيعاب حقائق التعدد والتنوع الذي هو طابع هذه البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً منذ أن أخذت تتقاطر عليها الهجرات العربية بحثاً عن الكلأ والتجارة والذهب. وكل ذلك حملهم لأن يعتبروا دخول العرب السودان بمثابة «نهاية التاريخ»، مثلما اعتبروا انفصال الجنوب «بداية الاستقلال» أو على الأقل «الاستقلال الثاني». جدل الانفصال وأسبابه ونتائجه، زودنا بعينتين طازجتين لتضارب الرؤى وتباين المشاعر، وكلاهما مهم من حيث واقع صاحبه في جملة الحراك السياسي الذي ينتظم البلاد، العينة الأولى: حديث للبروفسير محمد إبراهيم خليل رئيس المفوضية القومية للاستفتاء، أجراه معه من جوبا ل«الأحداث» الصحافي الفاتح عبد الله، والعينة الثانية (المضادة) مقال للدكتور أمين حسن عمر وزير الدولة برئاسة الجمهورية والمفاوض الحكومي في منبر الدوحة، طالعته بعد أن أعادت نشره «الانتباهة» نقلاً عن جريدة «الرائد» في زاوية الأستاذ الطيب مصطفى الذي قدم للمقال بفرح غامر. بروفسير خليل، في رده على سؤال حول قراءته لانفصال الجنوب، انطلق من مطالع فجر الاستقلال، ووصف السياسة الشمالية بأنها كانت تتسم بضيق الأفق، خصوصاً في مسألة منح الفيدرالية للجنوب ووضع الدين في الدولة، خصوصاً لدى مطالعة المداولات البرلمانية قبل الاستقلال ومداولات لجنة الدستور، ورأى أن المفارقة تكمن في رفض الفيدرالية ابتداءً، والعودة مرة أخرى للانهماك في تطبيقها بصورة مرهقة حتى أصبح بالسودان 26 ولاية. أما بالنسبة لمسألة الدين فقد ذكّر خليل بما قاله أستاذ القانون بجامعة الخرطوم عضو لجنة الدستور عام «1975» (نتالي نوك) بأن «مسألة الدين في الدولة تضر بوحدة البلاد، وعلينا أن نتفق على نظام يُمثل فيه كل الناس»، لكن هذا الكلام أهمل -كما قال- حتى جاءت لجنة الدستور عام 1967، وظل الجنوبيون يقولون نفس الكلام حتى وصلنا إلى مفاوضات السلام الشامل، التي أساسها مبادئ «الإيقاد» والتي اقترحت أن يكون التفاوض حول هذه «المبادئ الأساسية» والتي أقرّت حق تقرير المصير، لكنها جعلته مشروطاً بفشل الطرفين في إقامة «دولة علمانية» يتساوى فيها الجميع من ناحية الحقوق والواجبات، وهذا -بحسب بروفسير خليل- يعني أن حق تقرير المصير وفق مبادئ الإيقاد ليس «حقاً مطلقاً»، بل يعتمد على شرط، وهو فشل الطرفين في إقامة دولة يتساوى فيها الناس بصرف النظر عن أديانهم. وأوضح خليل أن جانب «المؤتمر الوطني» استبعد قيام دولة كهذه متعددة الأديان والأجناس، ولذلك أبقى مسألة تقرير المصير، وهو لم يكن ينشأ أو يصبح حقاً إذا اتفقنا على دولة تعددية. وعندما سأله المحرر المحاور عما إذا كان من الممكن أن يخلص من حديثه بأن النخبة السياسية في السودان فشلت في إدارة التنوع على مدى خمسين عاماً، وفشلت في التوزيع العادل لثروات البلد وقدراته، رد بروفسير خليل بالنفي، وقال: لا، قبل العشرين عاماً السابقة لم تكن مسألة التوزيع العادل للثروات مشكلة، ولكن السياسيين فشلوا في أن يتسع صدرهم لمطالب الجنوب، وقبل هذا لم تكن هناك طبقات في السودان، وكل الناس كانوا قريبين من بضعهم البعض وهذه ظاهرة جديدة، وهذا يتناقض مع الإسلام، لأن القاعدة في الإسلام «أن لا يكون المال دولة بين الأغنياء». لكن بين أهم ما قاله بروفسير خليل في حواره الطويل مع «الأحداث»، هو رده على سؤال حول توقعاته في حال حدوث تغيير في الشمال، وهل يمكن أن نحلم بوحدة السودان، حيث استصحب في رده رؤيته للتاريخ والجغرافيا فقال: مؤكد.. أول شيء السودان تربطه أشياء كثيرة من الجغرافيا والتاريخ، والنيل مازال يربط بين الشمال والجنوب، والثقافة واللغة العربية وإلى حد كبير. عدد الناس الذين يتحدثون العربية كبير ويمكن أن نقول 80% من سكان الجنوب يتحدثون العربية -إلى جانب لغاتهم المحلية طبعاً- وهي اللغة المشتركة بين مختلف القبائل، وإذا أسسنا دولة مبنية على الحقوق والواجبات تنبع من مبادئ مقررة عالمياً في المساواة والحرية والعدالة والرفاهية وسلامة الحكم، ونحل المشاكل بيننا وبين الجنوبيين ونيسِّر التواصل بين الشمال والجنوب، افتكر بأن هناك أملاً كبيراً في أن يرجع الجنوب والشمال مرة أخرى. أما العينة الثانية فهي -كما سبقت الإشارة- للدكتور أمين حسن عمر، الذي قدّم له الأستاذ الطيب مصطفى بالقول «كم أنا سعيد أن أعيد نشر مقال رائع خطّه قلم الأخ د.أمين في صحيفة الرائد، ولئن أفصح الأخ أمين لأول مرة عن (قناعاته القديمة) التي كنت أعلم، بل كنت أوقن أنه -بحكم المنصب- كان كغيره من الصامتين يخفيها، فقد اتفق معنا أن الجنوب ظل يُكبِّل الشمال ويعوق انطلاقه»، وبهذا يشهد الطيب - كشاهد من أهله- ،وهذا يتسق مع رؤية الدكتور خليل بأن المؤتمر الوطني، كان يضمر الانفصال أصلاً، ولكنه «صامت» عنه كما هو حال د. امين، «تقية» حتمتها ظروف المناصب وأحابيل السياسة. عبّر د.أمين عن فرح وبهجة بما أسماه «بالاستقلال الثاني» -على عكس بروفسير خليل الذي عبّر عن حزنه لنتيجة الاستفتاء الذي كان يرأس مفوضيته- وقال أمين: إن الناظر إلى تاريخ السودان القريب منذ الاستقلال يدرك حجم الضرر الهائل الذي ألحقته مجموعة من العوامل جعلت من «الجنوب عامل الاستنزاف المستمر لدماء أبناء السودان ولنتائج عرقهم وكفاحهم»، فالتقى حذو النعل بالنعل مع صديقنا الطيب مصطفى في عبارته الراتبة «وحدة الدم والدموع»، بل أكثر من ذلك قال د.أمين: كان التمرد في جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة امتداداً للنزاع في الجنوب، وكذلك كان التمرد في دارفور لأسبابه المحلية أو التحريض والاسناد الأمني، كان كل ذلك بأسباب النزاع في الجنوب. وهذا -عندي- ابتسار، إن لم يكن إنكار، لجذور النزاع في تلك المناطق، وهذا لا يجوز في حق من يفاوض لحل أزمة كأزمة دارفور. وعبّر د.أمين عن رؤيته «اللاتاريخية» لأوضاع السودان بالقول: ولذلك فإذا كان أهل الجنوب يريدون بلداً مستقلاً فليأخذوه، لأن الأوطان ليست هي التراب، فالأرض تمتد وتعبر حدود وجدران بين الأوطان «إنما الأوطان تكون بأهلها»، فالروابط والوشائج والأواصر وشراكة التاريخ والآلام والآمال والمقاصد هي التي تصنع الشعوب الموحدة.. «ولن حزن البعض على بلد المليون ميل، فقد كان ذلك هو (وطن الجغرافيا)، ولكنه لم يكن الوطن التاريخ». ومثل هذا القول يدفعنا لأن ندعو جميع أطياف النخبة الشمالية -بكل تواضع ومحبة- لإعادة قراءة تاريخ السودان في العصور السحيقة وحتى دخول العرب السودان وبعد دخولهم إلى لحظة الانفصال وحتى بعدها، فلن يجدوا سوى وطن متعدد الأعراق والسحن والديانات والثقافات والأعراف، ولن يستقر مثل هذا الوطن قبل أن يجد الدولة والصيغة المعبرة عن تعدده وتنوعه الماضي والمعاصر، ولله في خلقه شؤون.. فقد جعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا وأكرمهم عند الله أتقاهم!