يوم الأربعاء الماضي كانت «إضاءتنا» حول دارفور كانت بعنوان «ملتقى المبعوثين.. ضغط غير مجد» وقلنا إن حديث المبعوثين الدوليين والمسؤولين السودانيين انصب على مسألتين رئيسيتين، أولاهما- وربما أهمهما- هي الضغط على حركتي العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم، وحركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور، من أجل التوجه إلى الدوحة واللحاق بمائدة المفاوضات المنعقدة هناك.. والثانية و«الثانوية» هي الاسهام ودعم برامج التنمية، وإعادة الإعمار، ومواصلة العون الإنساني في المسألة الأولى والأهم، وهي الضغط على الحركات المسلحة الرافضة للانضمام لمنبر الدوحة، بشروطه الحالية ووسطائه الحاليين، تساءلنا إن كان لمثل هذا الضغط أن ينتج أية خطوات إيجابية تعزز فرص السلام في دارفور كما ترغب الحكومة.. وكانت إجابتنا: للأسف - لا، لأن السلام لا يتأتى عبر الضغوط، بل هو عادة يأتي كمحصلة لقناعات تتوفر لدى الأطراف بضرورته وجدواه، وحتى لو أتى نتيجة للضغوط والحصار، فغالباً ما يكون سلاماً هشاً ريثما ينهار لدى أول سانحة تمرد. من ثم ذهبنا لتشخيص حقائق الواقع على الأرض، وأوضحنا - بحسب المعلومات المتوفرة والمنشورة - إن الوضع الأمني بدارفور لا يزال متأرجحاً، كما أبلغ رئيس بعثة اليوناميد د. إبراهيم قمباري المبعوثين الدوليين والمسؤولين الحكوميين المجتمعين في الفاشر، وعزا ذلك «التأرجح» إلى المعارك والمواجهات الدائرة بين القوات الحكومية ومقاتلي حركة العدل والمساواة بمناطق متفرقة من دارفور. وأضفنا: أننا نجد أن جلَّ النازحين لا يزالون قابعين في معسكراتهم جراء مخاوفهم من اشتعال الحرب على نطاق واسع مرة أخرى، ولانعدام الأمن الشامل في ضوء «حرب العصابات» التي لم تضع أوزارها بعد، واعتبرنا غياب مبعوثي الولاياتالمتحدة - سكوت غرايشن- وبريطانيا - مايكل أونيل، مؤشراً إلى «موقف غير معلن» من جدوى الضغط على الحركات المسلحة، وأخطر من ذلك قد ينم عن عدم استعداد واشنطن ولندن في تسيير وتسهيل الوصول إلى أزمة دارفور في الشهور الخمسة المتبقية على إجراء الاستفتاء على تقرير المصير في جنوب السودان، وقلنا إن استمرار الأزمة والحرب في دارفور يدخل- بدون شك- ضمن محفزات الانفصال الذي تبنته وتدعو له الدولتان، أو ربما رأت فيه «كرتاً» إضافياً للضغط على الخرطوم حتى تأتي طائعة مختارة لخيار الانفصال، وتتَّخلى عن دعوتها وجهودها المعلنة لصالح الوحدة. وختمنا بالقول: إننا كنا ومازلنا نرى أن حل أزمة دارفور يكمن أولاً وأخيراً في توفر الإرادة السياسية السودانية، إرادة تخاطب جذور الأزمة التي هي جماع مطالب أهل دارفور، وهي مطالب غير مستحيلة أعلنتها الفصائل الدارفورية مراراً وتكراراً: الأمن والسلام والخدمات الضرورية والتنمية، و«الإقليم الواحد» في إطار نظام فيدرالي، والتعويضات الفردية والجماعية، والاشتراك في تسيير حكم البلاد على مستوى المركز على قدم المساواة مع الأقاليم الأخرى، وإن كل ذلك ميسور وممكن، ويمكن أن يتم بأيدٍ سودانية عبر اشراك كل القوى السياسية في مؤتمر يعقد في الفاشر أو نيالا أو الخرطوم، يلتقي فيه السودانيون على كلمة سواء، ويقتصر دور المجتمع الدولي على الدعم والمساندة المعنوية والمادية على ما يتفق عليه أهل السودان بإرادتهم الحرة، وعندها فقط ستكشف الحكومة أن الحل بين يديها وتحت أقدامها وذهبت تفتش عنه في المرافيء والعواصم البعيدة. في نفس يوم نشر تلك «الإضاءة» صعد د. غازي صلاح الدين مسؤول ملف دارفور منبر البرلمان ليقدم تنويراً للنواب عن جهود السلام الجارية في الدوحة، وأعلن - بحسب هذه الصحيفة وصحف أخرى - ما يلي: ü إن مهمة تكليف الوساطة حول مفاوضات سلام دارفور بالدوحة ستنتهي منتصف يوليو الجاري - وكان صلاح الدين يتحدث في يوم 7 يوليو من ذات الشهر، أي أنه لم يتبق لها سوى أسبوع واحد - وعليه استبعد التوصل لاتفاق نهائي خلال هذا الموعد المحدد، وقال إن ما تبقى من أيام لن يحقق سلاماً إلا بمعزة، ونقول قطعاً هذا ليس زمن المعجزات. ü شخَّص صلاح الدين العقبات التي واجهت التفاوض في «اختراقات حركة العدل والمساواة ومهاجمتها لقوات الحكومة، بجانب رفضها الاستمرار في المفاوضات فضلاً عن الانقسامات في بقية الفصائل الأخرى، وفي «القبلية» حيث تدفع القبائل بأبنائها للتمرد وحمل السلاح عندما ترى مهرجانات التفاوض وذلك للفوز بمقعد نائب رئيس». ü صلاح الدين، دعا - كما طالبنا نحن - إلى ما أسماه «توطين حل القضية داخلياً»، وعدم اختزالها في مفاوضات الدوحة التي قال إن البعض يفهم «أنها مبادرة قطرية» - وهي ليست كذلك بالفعل - إنما الدور القطري - الذي أشاد به - تقع تحت مظلته «دول عربية وأفريقية واقليمية» كاشفاً عن استراتيجية جديدة لحل القضية وفق المبادرة الراهنة، تتركز على عدم حصر التفاوض مع الحركات المسلحة، باعتبار أن تسليط الأضواء على هذا الجانب يعطي انطباعاً خاطئاً بأن المشكلة تنتهي بالتوقيع. بالأضافة إلى أن اختزال العملية السلمية في حركات منقسمة يشوه حقيقة السلام والتي تعتبر عملية متكاملة. يعني مخاطبة جذور الأزمة - تشمل المصالحات وتعويض المتضررين وإعادة النازحين وتحقيق السلام بأوجهه المعقدة، فضلاً عن أن التمييز غير المتوازن في العملية السلمية لمصلحة إجراء التفاوض يشجع - كما قال - على المزايدات السياسية والسجال الإعلامي الذي يغذي الانقسامات، وذلك في إشارة لمواقف بعض قادة التمرد كخليل وعبد الواحد. ü بالرغم من دعوته ل «توطين الحل» أعلن غازي عن ضرورة التمسك بالمبادرة العربية والأفريقية، التي يجري التفاوض حولها في الدوحة، إلا إذا توفر لها الغطاء القانوني، وحققت مصلحة وطنية واضحة، لكنه مع ذلك اقترح نقل «ثقل التفاوض إلى الداخل» دون استثناء أو عزل المكون الخارجي، وذلك بإشراك المؤسسات المنتخبة الممثلة لدارفور على المستوى التشريعي القومي والولائي، إضافة إلى المجموعات الأهلية في التشاور حول قضايا التفاوض. ü من التلخيص الذي أوردناه بعاليه لتنوير د. غازي صلاح الدين، يمكن ملاحظة أن التوجه العام لخطابه، الذي هو رؤية الحكومة بحكم تكليفه بملف دارفور، يكاد يقترب جداً ويتوافق بدون إتفاق مع ما ذهبنا إليه في تلك «الإضاءة»، ويمكن إجمال ذلك في ضرورة توفر الإرادة السودانية بمخاطبة جذور الأزمة، وأن يتم ذلك بأيدٍ سودانية، بمعنى «توطين الحل» بلغة صلاح الدين، وعدم «التمييز» في التعامل مع الحركات المتمردة والمنقسمة فيما بينها، لأن ذلك يشجع المزايدة الإعلامية، ويضر بأهداف التفاوض، وعدم حصر التفاوض «مع الحركات المسلحة»، بمعنى توسيع مظلة التفاوض، لكنه حصرها في المؤسسات المنتخبة والقطاع الأهلي، ونحن نرى أن تتسع هذه المظلة لكل القوى السياسية الفاعلة في البلاد، لتشكل ضمانة مستقبلية عبر مشاركة هذه القوى التي قد تصل يوماً إلى الحكم، فتكون ملزمة بالسلام الذي اشتركت في صنعه. آخر المفاجآت في ملف دارفور، هو ما نقلته الفضائيات مساء الخميس، حيث توجه الوسيط القطري وزير الدولة أحمد بن عبد الله آل محمود وجبريل باسولي الوسيط الدولي رأساً إلى باريس، واجتمعا إلى عبد الواحد محمد نور، عقب اللقاء خرج عبد الواحد محمد نور يتحدث - للمرة الأولى - عن ما وصفه باستمرار التشاور مع الوسيطين آل محمود وباسولي حول إمكانية مشاركة حركته في مفاوضات السلام، لغة دبلوماسية غير معتادة في تصريحات عبد الواحد المتشددة.. ومع ذلك فإن الحديث عن «استمرار التشاور» لا يخلو من مناورة ولعب على عامل الوقت، خصوصاً عندما نتذكر تنوير د. غازي صلاح الدين أمام البرلمان، الذي أعلن فيه 15 يوليو الحالي كسقف زمني لانتهاء أجل المفاوضات. في النهاية، نقول أيضاً، كما قال د. غازي لابد من «توطين الحل» ولا بد أن يستعيد الداخل السوداني ملف دارفور ليتم الحل بأيدٍ سودانية، وأن تتسع مظلته لتشمل جميع القوى الفاعلة، و«العرجا لي مراحا» كما يقول أهلنا.