استمرت حرب(البسوس) أربعين عاماً من عام 494م إلى 534م بين قبيلتي بكر بن وائل وتغلب بن وائل، وتعتز قبيلة تغلب برمزها وائل بن ربيعة، والذي تلقب (بكليب)، هل انتهت هذه الحرب الضروس بنهايتها ونهاية أبطالها، وقد مضى عليها أكثر من خمسمائة عام، أم مازالت تلقي بظلالها على حياتنا اليومية، لعالمنا العربي والإسلامي المعاصر؟ وهل الانتفاضات التي تنتظم العواصم والمدن والشوارع العربية عموماً، واستمرار سلسلة الهيجان المتصاعدة للثورات الشعبية قد أعادت إلى الأذهان قيادات الجاهلية الأولى، ووجدت بيئة صالحة لكي تسود صفات وراثية لقادة عرب من طراز المهلهل بن ربيعة أو الحارث بن عباد . فقد حدث أن كليباً دخل على امرأته جليلة فقال لها هل تعلمين على الأرض امنع مني ذمة؟ فقالت بعد تردد وتكرار السؤال عليها: نعم... أخي جساس بن مرة لقد طعنت هذه الكلمات كبرياء ومكانة هذا القائد، وهو الذي بلغ من بغيه أنه كان يحمى مواقع السحاب، فلا يرعى حماه، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالا ً له، لقد اضمر كليب في نفسه وسكت على قول جليلة حتى مرت به ذات يوم إبل جساس، وفيها ناقة البسوس خالة جساس فرماها بسهم في ضرعها اختلط فيه لبنها بدمائها.. عزة النفس هي التي دفعت كليب لقيام حرب من أطول الحروب في تاريخ الجاهلية، ليس بسبب قتل الناقة، ولكن الكبرياء والبغي الذي طغي على(كليب) القادة العرب نحسب إن كبرياءهم قد أصيب بخدش بعبارات (أرحل... أرحل)، فشنوا حروباً على شعوبهم وصارت عبارات وهتافات الرجال والنساء أشد فتكاً من هراوات ورصاص جيوشهم النظامية وغير النظامية.. فكم من عبارات غيرت وجه التاريخ، حين كان يهتف الصحابي بلال بكلمة ( أحد ... أحد) سئل رضوان الله عليه لماذا هذه الكلمة بالذات قال.. لأني قد علمت أنها تغيظ كفار قريش، فكانت من أحب الكلمات إلى قلبي فدفعت بها في وجوه سادات وأشراف مكة، ودفعت عني حروفها القليلة العدد، القوية المعنى والمغزى، دفعت عني الشعور بالألم والعذاب الذي كان يصبوه صبا. إن الزهو الشديد دفع كليباً أن يبغي على قومه حتى صار مضرب المثل، فقالت العرب (أعز من كليب بن وائل)، ولكنه تعرض لغضب جساس، والذي انطلق إلى كليب فقتله ارضاءً لخالته البسوس، فكأن مقتله قد أوحى لعصرنا بمقتل(خالد سعيد)، الذي أشعل شرارة ثورة الخامس والعشرين من يناير بمصر وشرارة (بوعزيزي) الذي أشعل ثورة تونس، قتل كليب فقامت حرب دامت أربعين عاماً قادها شقيقه (المهلهل).. كان هذا في الجاهلية بدون حاجة إلى مواقع التواصل الاجتماعي لتوحيد كلمتهم ولم شملهم، فقد كانت القيادات في الجاهلية قيادة بالفطرة والمكانة الاجتماعية التي يحرصون عليها. لم تكن حرب البسوس بمفردها في الجاهلية فقد اندلعت حرب (داحس) و (الغبراء) بين قبيلتي عبس و ذبيان، وفيها برزت قيادة أشهر شاعر في الجاهلية عنتر بن شداد، داحس حصان لقيس بن زهير، والغبراء فرس لحمل بن بدر. قيادات عربية تتصارع من أجل الزعامة والشرف اتفق الرجلان قيس وحمل على رهان سباق بين فرسيهما في مسافة كبيرة تستغرق أياماً تقطع من خلالها شعباً صحراوية قاسية اكتسب قادتها منها القسوة وغلاظة القلب، التي دفعت (حمل) بأن يوعز لأتباعه أن يختبئوا في تلك الشعاب قائلاً لهم: إذا وجدتم داحساً متقدماً في السباق فردوا وجهه كي تسبق الغبراء، فلما فعلوا تقدمت الغبراء. حينما تكشف الأمر بعد ذلك اشتعلت الحرب بين عبس وذبيان، والتي عرفت بحرب (داحس والغبراء) اربعون عاماً هنا و اربعون عاماً هناك من الحروب، قبائل تنام ولكن من غير سكون، وتهجع ولكن من غير استقرار، كانت الحرب سجالاً كما اليوم، ما أن تتقدم كتائب وجيوش حتى تأخرت، ولم تكد تهجم حتى ترتد، أربعون عاماً ضاعت وعمر الشعوب تضيع وتاريخها يسجل مواقف الرجال، واقتصادها ينهار، ويموت رجالها وتثكل نساؤها ويؤتم أطفالها. انتهت حرب البسوس بتدخل حكيم من حكماء العرب (الحارث بن عبادة) الشاعر الجاهلي، وأحد سادات العرب اشتهر بالحكمة والتوسط بين قومه.. انتهت حرب داحس والغبراء أيضاً بعد قيام شريفين هما الحارث بن عوف وهرم بن سنان بدفع ديات القتلى. إن العرب يمكنهم يلتفوا حول كبير لهم ذا رأي، لقد حاولت كل من قادة قبيلتي بكر ووائل حشد الناس للوقوف لمساندتها في الحرب، وطلب من الحارث بن عباد وكان مشهوراً ببسالته وشجاعته، وقد كان ماهراً وشاعراً أن ينضم إلى أحد الفريقين، ففضل الحياد وأطلق قولته المشهورة (لاناقة لي فيها ولاجمل)، حيث لم يعجبه أن يقتل كليب وهو سيد قومه بسبب ناقة. تحتاج الأمة العربية الى من يمتطي (القصواء) ويسعى بينها ليملأ وقت فراغهم بما يفيد بدلاً من البحث عن وسائل الشقاق والتدابر وازعاج النفس وضياع الحق وتثبيت الباطل وبث روح التفاؤل، فالشعوب ترجو مع تقدم الحضارة وازدهار العلم أن تتقدم الأخلاق والفضائل، مانجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلا بالتفاؤل المستبشر، إذ تجمعت الدنيا على رهطه القليل فما استسلم، ولكن إيمانه بالله وثقته فى ربه كانا باعثاً التفاؤل في احلك أوقات الشدة.. إن شعوبنا العربية تعيش في زمن هى أكثر حاجة الى التفاؤل وليس التقاتل. دخل الحجاج بن يوسف الثقفي الكوفة بعد رجوعه من حرب الخوارج، فجمع الناس في المسجد وصعد المنبر ليخطب، فتكسر لوح خشبي تحت قدمه، وتغيرت الوجوه، والتفت كل مستمع الى جاره، فصاح الحجاج ماهذا ياقوم، الآن انكسر عود جزع ضعيف تحت قدم أسد هصور تشاءمتم؟ ماهكذا الرجال!