* حتى كتابة هذه السطور أمس السبت ما تزال صنابير المياه في كثير من أجزاء محلية كرري تضخ مياهاً عكرة بنية اللون، (سمكية) الرائحة ولا تصلح أبداً للاستخدام الآدمي (الشرب الاستحمام غسيل الأواني غسيل الملابس) إلا لمن أُضطر غير باغٍ ولا عادٍ وتصلح لما دون ذلك من الاستخدامات الأخرى، وطبعاً لا أحد يستطيع أن يلوم هيئة مياه ولاية الخرطوم المسكينة، فهي الأخرى ضحية ولا حول لها ولا قوة، والمسئولون فيها ليس عليهم حرج فيما حدث لأنهم ببساطة قد (فوجئوا) تماماً كما حدث لهم العام الماضي وأعوام مضت بزيادة معدلات (العكورة) في مياه النيل عن المعدلات الطبيعية في مثل هذا الوقت من العام، فهم كانوا عاملين حسابهم على المعدلات الطبيعية التي لهم حول وقوة عليها و(قرّطوا على كدا)، ولكن النيل الغدار (مقلبهم) وباغتهم بزيادة كبيرة في ما يحمله من عكورة بلغت حسب بيان الهيئة 37,000 وحدة عكارة ضوئية (اللهم زدنا علماً).. وهي معدلات تفوق قدرة وإمكانية وتقنية الهيئة المسكينة في تنقية مياه النيل ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. فما الذي في وسع هيئة المياه عمله إزاء خروقات النيل المتكررة وعدم التزامه بالمعدلات الطبيعية (المتفق عليها) ودأبه علي مفاجأة الهيئة في كل عام مرة أو مرتين؟ ولا يستطيع المواطنون أن يلوموا جمعية حماية المستهلك التي هي الأخرى فوجئت بتدفق هذه المياه بنية اللون، وقد قامت الجمعية مشكورة بأداء دورها كاملاً غير منقوص وذلك (بمناشدتها) الهيئة بضرورة الإسراع في معالجة تعكر المياه، حتى لا يتضرر المستهلك كثيراً من خطرها- حسب تعبير الجمعية وهنا لابد من الإشادة بهذا الموقف الشجاع والبطولي للجمعية في الدفاع عن حقوق المستهلكين (بفتح اللام)، وهذا الجهد الجبار الذي بذلته الجمعية في توجيه مناشدة (شديدة اللهجة) إلى الهيئة بضرورة المعالجة بأسرع ما تيسر فلها كل الشكر والثناء هي الأخرى.. إذن فاللوم كل اللوم يقع على عاتق المواطنين الصديقين الذين صدقوا الوعد الذي باعته لهم الهيئة في العام الفائت باتخاذ الاحتياطات اللازمة لكي لا تتكرر هذه المشكلة في هذا العام، فصدقوها ولم يستعدوا بالفلاتر الخاصة إيماناً منهم بأن الهيئة جهة محترمة ولن تخلف وعدها، وفوق ذلك فهم كانوا على قناعة وثقة بأن الهيئة تملك القدرة على شراء مواد التنقية المطلوبة، وأن محطاتها تعمل بكفاءة عالية، ولكن يبدو أن هيئة المياه حينما أطلقت وعدها ذاك قالت في نفسها (لغاية السنة الجاية يحلها الحلاَّل)، فحال عليها الحول وحالها لم يتغير مثل حال (زيدان الكسلان)، أو ربما أن شراء عدادات الدفع المقدم قد (هدّ) حيل ميزانية الهيئة وجعلها خاوية على عروشها فلم تستطع توفير مواد التنقية اللازمة لهذا العام.. أحد مواطني حي المنارة يسكن بالقرب من النيل قال أنه أخذ عينة من مياه النيل وأخرى من (الماسورة) في البيت للمقارنة، فلم يجد بينهما أي اختلاف لا في اللون ولا في الرائحة فقال ساخراً (عشنا وشفنا النقل المباشر للموية) وقال آخر (يا جماعة ناس الهيئة ديل عاوزين يوصلوا ليكم موية طبيعية طازجة وخالية من أي مواد حافظة عشان صحتكم مفروض تشكروهم)، أنا شخصياً أحتفظ بقارورة كبيرة من مياه الهيئة العكرة كمعروضات أولاً وللذكرى والتاريخ ثانياً، فمن يدري ربما يأتي يوم تنحسر فيه على مستوى نقاء (موية زمان) فيما لو واصل النيل في عادته المحببة إليه في مفاجأة الهيئة سنوياً بأطنان من الأطماء والعكورة يشل قدرتها في رفع مستوى التنقية لتكون المياه نقية وسائغة للشاربين. * الهيئة في بيانها قالت إنها تقوم بالمعالجات اللازمة وزيادة كمية مواد التنقية وتقليل كمية المياه المنتجة (للحفاظ عليى صحة المواطن والتخلص من الطمي أولاً بأول)، وطبعاً الهيئة عندها ذوق ودم وإحساس فلم تنسَ أن (تعرب) عن اعتذارها لمشتركيها و(تؤكد) لهم أنها تبذل قصارى جهدها لإعادة الإمداد المائي لوضعه الطبيعي المألوف في (أقرب وقت)، وحلوة حكاية الحفاظ على صحة المواطن دي وأحلى منها إعادة الإمداد (في أقرب وقت) وطبعاً هذه العبارة لا سقف لها و مفتوحة وفضفاضة وتحتمل أي قدر من الوقت يوم أو يومين، أسبوع أو أسبوعين شهر أو شهرين، إلخ.. أو إلخين.. وهي عبارة توفر ملاذاً آمناً لمن يتوارى خلفها ويستجير بها هرباً من المحاسبة والمساءلة وهي مثل الغد الذي لا يأتي أبداً ولا أدري لماذا لم تتبرع الهيئة في ذيل بيانها بتقديم النصح والمشورة (الشعبية) إلى مشتركيها باستخدام بدائل أخرى معينة لسد حاجتهم من المياه، كما تفعل بعض بيانات شرطة المرور عند إغلاقها لشارع معين فتنصح (مستخدمي) الطريق بسلوك شوارع أخرى بديلة حتى ولو لم تكن هناك شوارع بديلة أصلاً، ولكن المشكلة في مياه الشرب أنها ليس لها بدائل أخرى إلا (موية الصحة) وهي مياه خاصة لمن استطاع إليها سبيلاً، لا يقدر عليها إلا الموسرون وقليل ما هم، وطبعاً الهيئة وحفاظاً على (النسيج الاجتماعي) لن ترضى بأن يشرب قليل من الناس صفواً ويشرب غيرهم كدراً وطيناً. * والسؤال الوجيه الذي يفرض نفسه ويوجه إلى هيئة المياه هو أليس في وسع الهيئة أن تكون لها آلية للحيلولة دون تأثير زيادة نسبة العكورة سلباً علي كفاءة تشغيل محطات التنقية النيلية، خاصة وأن ازدياد هذه العكورة هو أمر يتكرر في كل عام من قديم الزمان؟ أليست هناك تقنيات حديثة لمواجهة هذا الطارئ؟ أم ليس بالإمكان أفضل مما كان؟ هل محطات التنقية العاملة الآن ذات مواصفات عالمية ومواكبة لأحدث ما أنتجته الصناعة العالمية العاملة في هذا المجال؟ أم أنها أثرية وتاريخية و(من سنة حفروا البحر)؟ والإجابة بالطبع بديهية ومعروفة والجواب يكفيك عنوانه.