خطب جلل هو ما أصاب الثورة الليبية، بمقتل رئيس أركانها المهيب اللواء عبد الفتاح يونس صباح الخميس الماضي، تم إعلان النبأ رسمياً في مساء اليوم ذاته بواسطة رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل، وأُعلن الحداد الرسمي في شرق ليبيا والمناطق المحررة في كل مكان من البلاد لمدة ثلاثة أيام. الحادث أحاطه غموض شديد، سواء بالنسبة لدوافع القتلة الذين أطلقوا النار على اللواء يونس ورفيقيْه العقيد محمد خميس والمقدم ناصر مذكور، عندما كانوا يتوجهون للقاء أربعة قضاة للتحقيق في ما قيل إنه «شؤون عسكرية» أو ما تسرب من أن التحقيق كان لاستجلاء بعض الحقائق المتعلقة بشبهات حول اتصالات يجريها اللواء يونس مع سلطة العقيد القذافي، كما يُضفي اختفاء جثث القتلى الثلاثة، الذي أعلن عنه عبد الجليل في مؤتمره الصحفي مزيداً من الغموض والتشويش على الموقف برمته، كما أنه لم يتضح على وجه الدقة أين تمت عملية الاغتيال، كما لم يفصح عبد الجليل عن كيف علم بموتهم، لكنه أكد «فتح تحقيق في الحادث» وقال إن الجثامين الثلاثة لايزال البحث جارٍ للوصول إليها وإلى الجناة، إلا أنه أشار إلى أنه تم اعتقال رئيس المجموعة المتهمة بتنفيذ عملية الاغتيال. يوم الخميس ذاته كانت قد سرت شائعات في بنغازي - عاصمة الثورة- تفيد بأن اللواء يونس اُعتقل في بنغازي لتحقيق معه بعد استدعائه إلى هناك من جبهة «البريقة»، حيث كان يقود العمليات العسكرية ضد قوات القذافي، ولم يتضح بشكل حاسم أسباب الاستدعاء التي امتنع عبد الجليل عن ذكرها أو التعليق عليها في مؤتمره الصحفي، بالرغم مما تردد من شائعات عن قيام يونس بإجراء اتصالات سرية مع القذافي، شائعات لم يعرف مصدرها أو أساسها ودقة المعلومات التي تستند عليها. اللواء عبد الفتاح يونس ولد بالجبل الأخضر في شرق ليبيا عام «1944»، وينحدر من قبيلة العبيدات، وكان قد انتمى في أول عهده بالعسكرية لمنظومة الضباط الأحرار الذين ساعدوا الملازم أول «حينها» معمر القذافي للإطاحة بنظام العاهل الليبي إدريس السنوسي عام 1969، وأصبح من أقرب مساعدي القذافي في مجلس قيادة الثورة ومحل ثقته، وظل على مدى أعوام طويلة مسؤولاً عن الأمن الداخلي و قائداً للقوات الخاصة الليبية، قبل أن يقدم القذافي على تفكيك الجيش الليبي وتحويله إلى مجموعة كتائب بقيادة أبنائه وأصهاره، كما تم تعيينه مؤخراً «عام 2009» وزيراً للداخلية. عندما انفجرت الثورة في بنغازي بعث القذافي بوزير داخليته يونس إلى هناك، للعمل على إخماد الثورة التي انطلقت في 17 فبراير، وعندما وصل اللواء يونس إلى بنغازي يوم 21 فبراير- أي بعد أربعة أيام- انضم على الفور إلى صفوف الثوار، بعد أن رأى ما فعلته الكتائب بشباب الثورة السلمية هناك، لكن بعض الثوار، وقادتهم من العسكريين على وجه الخصوص، لم يشعروا بالراحة نحو اللواء يونس الذي كان حتى فترة قريبة مقرباً من القذافي، وظهرت بوادر نزاع بشأن قيادة المعارضة العسكرية، وطبقاً لتقارير نقلتها وكالة الأنباء الألمانية «د. ب.أ» من العاصمة طرابلس، فإن يونس لم يكن سعيداً في الأشهر القليلة الماضية بعدما قام المجلس الوطني الانتقالي بتعيين اللواء خليفة حفتر قائداً للجيش الوطني التابع للثوار، فيما عين اللواء يونس رئيساً للأركان، وتردد، بحسب الوكالة، أن يونس وحفتر تجادلا كثيراً منذ ذلك الحين حول الخطط الاستراتيجية العسكرية وبشأن أساليب القتال في مختلف الجبهات. مثّلت استقالة اللواء يونس عبد الفتاح وانضامه للثوار ضربة موجعة لنظام العقيد القذافي، وللعقيد شخصياً، لأنه كان أبرز مسؤول ليبي-بعد القاضي مصطفى عبد الجليل وزير العدل يعلن انضمامه للثوار، وهي الاستقالة التي أعلنت يوم 22 فبراير من بنغازي، وأذكر جيداً العقيد القذافي في خطابه الثاني الذي أعقب خطابه الأول الشهير الذي توعّد فيه بتطهير ليبيا «شبراً شبراً وزنقة زنقة وبيتاً بيت وفرداً فرداً ممن وصفهم ب«الجرذان»، أذكر أنه في ذلك الخطاب الثاني الذي خصص جزءاً منه للحديث عن اللواء يونس عبد الفتاح، عبّر فيه عن ثقته الكاملة باللواء يونس، الذي وصفه بأنه صديق ورفيق منذ انطلاقة ثورة الفاتح من سبتمبر، وأنه لا يمكن أن يلتحق بالثوار، وأنه معتقل من قبل الثوار في بنغازي وطالب بإطلاق سراحه، وأنه واثق من عودته إلى صفوف النظام. أثار ذلك الخطاب في ذهني عدة تساؤلات، منها : هل كان القذافي فعلاً يقصد ما يقول، وهل لم يكن على اقتناع بأن اللواء يونس قد قرر بالفعل الالتحاق بالثورة؟ أم أنه كان مدركاً لحقيقة وضع اللواء وقراره لكنه يريد أن يدق اسفيناً منذ البداية بين اللواء الذي يعرف قدراته وإمكانياته وبين الثوار من جهة والعسكريين الذين انخرطوا أو قد ينخرطون في الثورة ؟ أم أن ذلك الخطاب كان بمثابة إنذار للواء يونس نفسه بأنه إن لم يتراجع فإن أيدي النظام وسلاحه ستدركه ولو كان في بروج مشيدة؟ انخرط اللواء يونس في تنظيم صفوف الثوار العسكرية وتدريبهم على السلاح ووسائل القتال، وبالفعل تمكن من طرد كتائب القذافي وملاحقتها والدخول معها في معارك كر وفر في الجبهة الشرقية حول البريقة، وفي الجبهة الغربية في مصراته والزنتان وجبل نفوسه وما حوله وفي الجنوب حتى الكفرة، وتحققت تحت قيادته انتصارات عديدة، كما كان رجلاً شديد البأس والمراس ذو طاقه جبارة على المتابعة الميدانية، وهذا ما كان يخشاه القذافي، وربما جاء تقديم اللواء يونس حفتر عليه قائداً عاماً لجيش الثورة بمثابة صدمة له، بالرغم من أنه كان عملياً هو القائد الحقيقي لقوات الثورة، ومع ذلك اكتفى بموقعه رئيساً للأركان وواصل عمله بنشاط، بما في ذلك ترتيب الاتصالات مع رئاسة حلف الأطلنطي التي لا مها علناً في بعض الأحيان. على تباطؤها وردود فعلها المتأخرة في توجيه الضربات لآليات وكتائب القذافي في الوقت المناسب، مما عرّض الثوار للعديد من الخسائر التي كان يمكن تفاديها لو التزم الحلف بالتنسيق والتخطيط المشترك. حتى الآن لا يمكننا أن نستبعد الاحتمالات المختلفة التي تقف وراء اغتيال اللواء عبد الفتاح ورفيقيه، احتمال أن تكون مخابرات العقيد التي لابد - وبالضرورة- أن تكون لها اختراقات لصفوف الثوار منذ الأيام الأولى، خصوصاً وليس هناك شروط أو حواجز أمام الانضمام للثورة، أن تكون تلك المخابرات هي التي رتبت لتلك النهاية المفجعة للواء يونس، الذي يعتبره القذافي خائناً للعهد ولثورة الفاتح التي كان أحد مفجريها، وكذلك احتمال أن يكون النزاع حول القيادة هو الذي يقف وراء تلك الشائعات التي تتحدث عن «اتصالات سرية» بين يونس والقذافي، ووجد منافسوه من العسكريين في ذلك فرصة مواتية، فاستدعوه لتحقيق كان بمثابة «كمين» لاغتياله قبل أن يبدأ التحقيق.. ومع ذلك فالوقت مازال مبكراً لإجابة حاسمة على سؤال من قتل اللواء عبد الفتاح يونس؟، ويبقى العزاء أن اللواء يونس قد مات شهيداً ومقاتلاً من أجل حرية شعبه وكرامته حتى آخر لحظة من حياته.