سيطرت مسألة الجنوب والحرب الدائرة فيه على الشطر الأعظم من تاريخ السودان الحديث، وظلت جرحاً فارغاً ينزف في جسد الوطن وكلما جاءت اتفاقية لإحلال السلام فيه ما تلبث أن تزيد النار ليصطلي بها جسد البلاد المنهك بالأزمات التي أقعدته عن السير في ركاب الدول المتطورة، بل وتَنكُّب الطريق إلى ذلك مرة تلو الأخرى. وتفاوتت القراءات التي تفسر أسباب استعصاء هذا الصراع عن الحل الدائم ما بين ثقافية واجتماعية واقتصادية ودينية وعرقية حسب أهواء كل فريق والدوافع التي تحركه إزاء هذا النزاع. ومنذ بواكير الحركة الوطنية ظلت النظرة الاستثنائية تتحكم في مخيلة الطبقة السياسية دون المقدرة على إيلاء الموضوع الأهمية التي يستحق أو استئصال شافة مسبباته بموضوعية وتجرد. ومنذ أن بدأ وعي الحركة الوطنية يتشكل جنيناً أخذ قادة ومثقفو الجنوب يبدون المخاوف من هيمنة الشمال عليهم غداة خروج المستعمر ولم تتجشم الحركة الوطنية عناء تبديد تلك المخاوف، بل وورثت الحركة الوطنية تلك النظرة «الكولونيالية» للجنوبي، وهي نظرة إزدرائية تتعالى عليه وتراه مجرد إنسان «بدائي» لا يمكنه الرقي إلى مستوى الإنسان المتحضر التي يستطيع إدارة نفسه بنفسه. ولا شك أن الظاهرة الكولونيالية على الصعيد المعرفي هي التي أطرت وعي المجتمعات الأوروبية المتحضرة من خلال البحوث والدراسات التي رفدت بها المؤسسات العلمية، وغذَّت مخيلة الشعوب الأوروبية واتخمتها بكم مهول من الصور النمطية والكليشهات عن المجتمعات البدائية ذات الطابع الضرائبي. ولعل علوم الأنثربولوجبا والإنتوغرافيا وسائر العلوم الإنسانية التي تخصصت في دراسة ما عرفت بالمجتمعات البدائية، وكانت تنضح بالتحيزات والافتراضات غير الموضوعية ما ينجم عن ذلك من حواجز حضارية فيما بعد. كان أن عملت تيارات ما بعد الكولونيالية على إعادة تركيب ميراث تلك العلوم على أسس موضوعية. ورثت الحركة الوطنية السودانية تلك النظرة التي تختصر الجنوبي وتزدرية وترميه بكل نقيصه، الأمر الذي أوغر صدور حتى المثقفين الجنوبيين فضلاً عن العوام، وأنشأ في نفوسهم حواجز وعقداً تعتمل في دواخلهم بثوراتها جيلاً بعد جيل عن «الشمالي» الذي يمارس ضدهم الاستغلال، والتعالي والإزدراء ويضمر ضدهم كل ما من شأنه أن يلحق الضرر بهم، الأمر الذي جعل من عقلية الشك والريبة هي المسيطرة على عقولهم وقلوبهم تجاه كل ما هو شمالي، ومن المفارقة أن تلك الافتراضات المتوهمة دلت عليها العديد من الممارسات من قبل الحكومات الوطنية ما جعل البون يزداد اتساعاً بين الشمال والجنوب على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. الأمر الذي جعل سائر الفعاليات الجنوبية تعتقد أن مواقف الشمال ضد مطالبهم المشروعة وضرب لازب لا فكاك عنه إلا بامتشاق السلاح. وكانت النتيجة حرباً أهلية ضروساً، هي الأطول في القارة الأفريقية أهلكت الحرث والنسل. كانت مطالب الجنوبيين على مدار تلك الحقب الغابرة هو الحصول على تسوية سياسية تقر لهم بالفدرالية كصيغة تعاقدية تحكم علاقة المركز بالإقليم الجنوبي. وكان الجنوبيون يرون في الحصول على نظام حكم فيدرالي من شأنه تبديد مخاوفهم إزاء الشمال، ويمكِّنهم من حكم أنفسهم والتعبير عن خصوصيتهم المتمثلة في الدين والمعتقدات، واللغة، والتقاليد والعادات والتي يرون أن الشمال يسعى جاهداً لطمس تلك الخصوصية. ولكن لما كان وعي الطبقة السياسية وعياً مأزوماً تحكمه نظره حسيرة موروثة عن الحقبه الاستعمارية رأت في مطلب الجنوبيين الحصول على الفيدرالية بمثابة دعوة إلى تقسيم البلاد. فلا مندوحة أن يصاب الجنوبيون بالصدمة واستبطان الشك والريبة في حكومات الشمال. وعكس هذا مدى ضحالة الوعي السياسي لدى النخبة السياسية الشمالية وافتقارها إلى الأفق السياسي لمعالجة جذور مشكلة الجنوب، ما جعلها تتفاقم زهاء النصف قرن، دون التصدي لها بشجاعة حتى اتفاق نيفاشا 2005م. وكلما أسلفنا ظلت الحرب في الجنوب كر وفر بين حكومات الشمال المتعاقبة والحركات العسكرية المعبرة عن الجنوبيين، فلم تستطع الحكومات الشمالية أن تخمد التمرد العسكري بقوة السلاح، ولم يستطع المتمردون الجنوبيون تحقيق مطالبهم بذات الوسيلة، حتى تم التوصل إلى اتفاق نيفاشا 2005م بين الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ الوطني، ولكن هنالك محددات أملت على طرفي المعادلة الركون إلى خيار السلام بدلاً من حروب الاستنزاف. ومن هذه المحددات، بروز نظام الإنقاذ الوطني ذو التوجهات الإسلامية وتجييش الشعب لصالح الجهاد ضد التمرد في الجنوب، وقد حقق ذلك انحسار رقعة التمرد. فضلاً عن أيدلوجيا المشروع الحضاري الذي حمل بين ثناياه مشروع تحرر سياسي مكَّن السودان من التحرر من الهيمنة الإقليمية والدولية وبات يملك قراره الوطني، الأمر الذي كانت له تداعيات إقليمية ودولية سلَّطت الضوء على السودان. وأثارت المخاوف من «القوة الناعمة» التي يمثلها المشروع، الأمر الذي سرع من وتيرة الاصطفافات ضد السودان لمحاصرته ووضع حد لتأثيره محلياً وإقليمياً ودولياً. ولما كان التحرر السياسي بالضرورة يتبعه تحرر اقتصادي يمَّم السودان وجهه شطر دول شرق آسيا ذات الإمكانات الاقتصادية المهولة والوزن الراجح في ميزان الاستثمار الدولي المتصاعد، ومن هنا برزت الصين وماليزيا- شريكتين تجاريتين- وأثمر تعاون السودان معهما استغلال ثرواته النفطية المركوزة في باطن الأرض، هنا ثأرت حفيظة الولاياتالمتحدة ومشروعها الإمبريالي الذي تبلور عقب حرب الخليج الأولى 1991م، وهو النظام العالمي الجديد، وأصبح الحديث عن «عالم القطب الواحد» متواتراً وهو هنا الولاياتالمتحدةالأمريكية، حتى يدب اليأس في قلوب الحالمين بنظام دولي متعدد الأقطاب غداة انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي وتداعي المنظومة الاشتراكية على الصعيد الدولي، وفي الوقت الذي آثرت فيه بعض الأطراف الوازنة التواري خوفاً من سطوة الولاياتالمتحدة. أخذ المشروع الحضاري الذي بشَّرت به حكومة الإنقاذ الوطني يثير حنق الولاياتالمتحدة وحلفائها على حد سواء، كيف يتجاسر نظام نشأ في بلد فقير مأزوم وتحيط به الكوارث والنزاعات إحاطة السوار بالمعصم أن يبشر بمشروع سياسي يدعو إلى التصدي لإمبريالية الولاياتالمتحدة، ويهدد مصالحها؟ ويتحرر من وصايتها ويتمكن من استغلال النفط بمساعدة الصين، القطب الدولي الصاعد كالقدر بالنسبة لإمبراطورية الولاياتالمتحدة، ويزاحمها كلما سنحت له الفرصة، وفي كافة الصعد؟. وأيضاً من المحددات التي عجَّلت بتسوية مشكل الجنوب في نيفاشا هو أن الجيش السوداني، ونتيجة لاستغلال عائدات النفط تمكن من ترجيح الميزان العسكري في مسارح القتال وفي كافة الجبهات لصالحه، ومن شأن رجحان كفه الميزان العسكري لصالح الجيش السوداني أن يعرض الجنوب لخسارة الحرب وبالتالي هيمنة حكومات الشمال بطريقة أشد على مقاليد الأمور في الجنوب، الذي طالما سعى الغرب جاهداً إلى تقويته على الصمود في وجه حكومات الشمال المتعاقبة. وأيضاً من المحددات نشاط اللوبيات وجماعات الضغط المختلفة التي استطاعت أن تمارس نوعاً من التأثير على صُناع القرار في الدول الأوروبية وأمريكا من أجل وضع حد للحرب الأهلية الدائرة في السودان. وكان لبروز «المحاظفين الجدد» في إدارة بوش الابن واعتناقهم لمبدأ الحرب الاستباقية والحروب الوقائية ونزاع الخير والشر، فضلاً عن عقيدة الحرب على الإرهاب، واقتلاع الأنظمة في «الدول المارقة» تحت هذه الذريعة، جعل من موضوع الجنوب مدخلاً يمكن من خلاله إزاحه نظام الإنقاذ عن سدة الحكم، ففي هذا السياق جاء التحضير لصفقة نيفاشا أو اتفاقية السلام الشامل في السودان. ... ونواصل...