أي تغيير أو رغبة فيه لابد من أن يبدأ أولاً داخل العقل، وتكون بذرته الأولى مجرد فكرة تنمو وتكبر بعد ذلك ب(التقليب) الهاديء داخل العقل حتى تنضج، وأي رغبة في التغيير لابد أن يسبقها (خيال) يصور الواقع الجديد المتوقع والمحتمل، لذلك يصبح الخيال هو حق الفرد في الاختلاف أو الإضافة أو التمرد على واقع مرفوض. قادة الثورات والتغيير -دائماً- هم من يطلق على الواحد منهم لقب (القائد الملهم).. والحقيقة أن ذلك (الإلهام) هو الخيال الصحي والصحيح الذي يجب أن يتمتع به كل الذين يعملون بالسياسة. «السياسي غير المثقف سيكون مثله مثل أي خشبة».. هكذا قال الأستاذ عبد الباسط سبدرات في حلقة إذاعية من برنامج (منازل القمر) استضافته فيها الأستاذة روضة الحاج، وكان يقصد بمفردة (خشبة) أن السياسي غير المثقف سيكون مجرد (جماد) لا ينفعل مع قضايا الناس ولا يرى المستقبل. استمعت وتابعت باهتمام ذلك الحوار الذي جرى مع الأستاذ عبد الباسط سبدرات، الذي عمل لمدة عشرين عاماً محامياً متفرغاً (مصبوغاً) باللون الأحمر، يتكيء على حدِّ السكين يصول يساراً ويجول يساراً أكثر، إلى أن انقلب نظام الحكم في السودان عام 1989 وعقد مؤتمر الحوار الوطني ودعا سبدرات للمشاركة فيه، فشارك ولم يخرج من تلك الاجتماعات إلا وتدثر بدثار الوزارة، حيث أصبح وزيراً للتربية والتعليم لمدة ثلاث سنوات.. ليتقلب بعد ذلك في المواقع الوزارية لمدة تجاوزت العشرين عاماً. أطل «سبدرات» الشاعر من خلف الحائط السميك الذي ضربته السياسة حول شاعريته، وغزله الرفيع وحول ما تغنت به البلابل من كلماته، وما (أوشك) و(كاد) أن يتغنى به الفنان الكبير الأستاذ محمد وردي من كلماته التي جاءت قصيدة راقصة المفردة حملت اسم (السيموتة) لكن المشروع لم يكتمل.. ولهذا قصة. طوال فترة عمله وزيراً للتربية والتعليم أو وزيراً للثقافة والإعلام أو وزيراً للعدل أو مستشاراً للسيد رئيس الجمهورية، كانت للأستاذ عبد الباسط سبدرات لمساته وبصماته، لأنه صاحب رؤية وفكر وخيال، بعكس البعض ممن يقعدون بمستوى وزاراتهم وأعمالهم لأنهم أقرب للآلة الصماء المبرمجة التي تنتظر من يدوس على أزرار تشغيلها.. وهم للأسف كثر ربما جاءت بهم الموازنات السياسية أو الجهوية أو غيرها. طوال فترة عمل سبدرات الطويلة في الطاقم الوزاري لم تكن علاقتنا معه (سمناً على عسل)، حدثت فيها خلافات، وحدة في القول، واختلاف حول أداء ودور الصحافة، لكن ذلك كله لم ينتقص من قدر الرجل في نفوسنا، وظللنا نكن له احتراماً خاصاً يستحقه إذ أن العلاقة بيننا قديمة، وعلاقتي به -كما أقول دائماً- من العلاقات (الموروثة) من السيد الوالد الأستاذ محمود أبو العزائم رحمه الله رحمة واسعة. ورغم الخلاف والحدة - في بعض الأحيان- لا أنسى له أنه طلب إلي أمام السيد نائب رئيس الجمهورية الموافقة على ترشيحي لوظيفة أمثل فيها السودان بالخارج، وقد اعتذرت عن ذلك اعتذاراً شديداً، وطلبت إليه أن يرشحوا غيري من أمثال «زيد» و«عبيد» و«عمرو». استعدت شريطاً طويلاً في فترة وجيزة لسيرة رجل فنان ورياضي وشاعر وقانوني وسياسي تقلب ما بين اليسار واليمين فكان نجماً في الاتجاهين.. وبدراً مكتمل النمو في كل موقع أو منصب أسند إليه. تحية صادقة -ومن القلب- لك أخي (مولانا) سبدرات.. صاحب الخيال الذي يضيف.. ويضيء.