الرهانات الكبرى.. تفكيك نظام الإنقاذ! لم تألُ الولاياتالمتحدة جهداً في السعي إلى وضع حد لنظام الإنقاذ، فلا العقوبات ولا الحصار ولا الحرب المتنقلة على تخوم السودان استطاعت أن تفت في عضده أو ترخي من قبضته.. ففكرت مصانع الأفكار، ومراكز البحوث الإستراتيجية، ومجموعات الضغط المختلفة أن تؤسس نظاماً سياسياً جديداً وفقاً لما جاء في اتفاق نيفاشا، يؤسس لدولة واحدة بنظامين على أدنى الفروض، أو تأسيس نظام علماني في سائر السودان إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ومن شأن هذه الصفقة إن تمت وبالطريقة التي خطط لها، أن تجعل من الحركة الشعبية الحليف الإستراتيجي للغرب والولاياتالمتحدة بمثابة حصان طراودة، الذي يدك حصون الإنقاذ، وبذا يتحقق لهم ما كان قد عجزوا طوال الفترة السابقة من تحقيقه، وكل ما كانوا يصبون اليه، هذا ما يفسر الضغط والحماس الذي بدا على مواقف الدول الغربية من هذا الإتفاق وتسييجه بحزمة من الحوافز والضمانات ترغيباً وترهيباً.. ولكن (الشفرة) التي أضمرتها أطراف هذه الإتفاقية هي(وضع حد نهائي لنظام الإنقاذ) وما يمثله من قيمة رمزية للصراع السياسي على السلطة في السودان بين المركز والهامش، ولكن لم تفت هذه الحيلة على قادة الإنقاذ، ولم تنطلِ عليهم ليركنوا إلى مواقف الغرب التي خبروها عن كثب. وتلى التوقيع على اتفاق نيفاشا ظهور مشروع (السودان الجديد) وقائده الملهم جون قرنق، وطفق الإعلام الغربي يتحدث عن المكون الجديد في دولاب السلطة السياسية والنتائج المترتبة على ذلك، لا سيما رهان تفكيك نظام الإنقاذ عبر مقولة(التحول الديمقراطي)، وانطلقت رؤية سياسية رغائبية مؤداها أن من شأن إحداث التحول الديمقراطي الحقيقي أن يضع حداً لهيمنة التنمية النيلية الشمالية ويسلم مقاليد السلطة إلى(المهمشين) الذين طالما عانوا ويلات الإقصاء والحروب والحرمان، وبما أنهم وفق رؤية السودان الجديد.. الأغلبية الديمقراطية في البلاد، طفق هذا التيار السياسي في إشاعة نوع من اليوتوبيا السياسية في وسط المجموعات العرقية المسماه بالمهمشة، وهو مسلك انتهازي رخيص يقوم على إيغار صدور الناس ضد مجموعات عرقية بعينها من أجل الوصول إلى السلطة، وهي مجازفة سياسية يمكن لولا الحكمة والحذق التي تحلى بها قادة نظام الإنقاذ، أن تنزلق البلاد إلى أتون حروب عرقية عنصرية تعصف بوحدة البلاد السياسية والاجتماعية، لذا يمكن القول إن الفترة الانتقالية بعد دخول الحركة الشعبية ميدان العمل السياسي لا سيما في الشمال.. بمثابة المشي في حقول ألغام. واستمر قادة الحرب الشعبية لا سيما التيار المسمى(بأولاد قرنق) والمرتبط بالدوائر واللوبيات الغربية، في إطلاق مقولات سياسية مفزعة عن دولة الجلابة وعبأوا البسطاء على أن ساعة الحقيقة قد أزفت وأن دولة الجلابة وممارساتها على شفا الانهيار ولم يتبقَ إلا قيام الانتخابات الديمقراطية الحرة والنزيهة لتسليم المهمشين السلطة في البلاد، ولكن كان ذلك مجرد تفكير رغائبي واعتباطي مبني على تخرصات وأوهام ورهانات كاذبة، وعبارة(جلابة)أو دولة الجلابة في قاموس الحركة الشعبية، لها تفسيرات ومدلولات مختلفة، فهي عندما تخاطب بها أهل الشمال لها معنى مختلف عن المعنى الذي تقصده في خطابها إلى أهل الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق، وعنه عندما تخاطب مكونات دارفور أو الوسط أو كردفان، ولكن المدلول الحقيقي لهذه الكلمة(الجلابة)، في عرف الحركة الشعبية والتيار المتحلق حولها بدعوى التهميش، المكون العربي في الهوية السياسية وتمظهراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية، والذي ترى فيه طارئاً وغريباً على السودان يجب وضع حد له، انطلاقاً من تجربتي الأندلس وزنجبار.وتماماً مثلما كان لفظ الجلابة/ دولة الجلابة، حمال أوجه.. كان شعار(السودان الجديد) كذلك، وهو على المستوى التجريدي والنظر لا منداحة فيه ولا تثريب عليه، إذ يعني- كما يردد هؤلاء- بناء دولة وطنية قائمة على المواطنة والعلمانية والتنمية المتوازنة بين أطراف البلاد ومراكزها، واحترام التعددية والتنوع في البلاد، ولكن كان في مدلوله السياسي مشروعاً استئصالياً لم يُخفِه ذلك التسربل بغطاء الديمقراطية، أو محاولات التحالف مع المعارضة الشمالية، والتمدد في داخل نفوذ مجتمعات الوسط النيلي في الشمال وتبني قضاياه المطلبية وتقنيعه ليبدو جذاباً ومقبولاً. ومن أجل تمكين مشروع (السودان الجديد) من أن يجد موطيء قدم له، تم تبني استراتيجية التركيز الإعلامي على رموزه وتحركاته من أجل إعداده لمرحلة ما بعد الإنقاذ، وانطلاقاً من خطورة الحركة الشعبية ومشروعها السياسي على الصيرورة التاريخية المكون العربي والإسلامي، عملت الطبقة السياسية الشمالية بدأب ونفس طويل على تفريغ هذا المشروع واحتواء خطورته وإبطال مهدداته عبر إطلاق أجسام سياسية (كمنبر السلام العادل وصحيفته الانتباهة).. واللذين مثلا نوعاً من توازن الرعب والردع باعتبارهما تهديداً وجودياً لكليهما وعلى طرفي نقيض. وكانت أفكار عبد الرحيم حمدي والتي عرفت في أروقة الصحافة ب (مثلث حمدي)، والتي طرحها من خلال أحد المؤتمرات العامة لحزب المؤتمر الوطني، ذهب فيها إلى أنه على المؤتمر الوطني إذا ما أراد الارتقاء لمستوى التحدي الذي يمثله مشروع(السودان الجديد)، عليه أن يركز على مناطق دنقلا- الخرطوم سنار- كردفان، والتي يمكن أن تكون له بمثابة حاضنة سياسية واجتماعية، وأن المناطق التي تعتبر مناطق نفوذ للحركة الشعبية ينبغي ألا يبدد فيها المؤتمر الوطني جهده، ولكن في الحقيقة، أن مثلث أفكار عبد الرحيم حمدي هذا، نوع من ردة الفعل على تحدي مشروع السودان الجديد بوجهه الاستئصالي إلا أنها كانت تكتنفها بعض الصحة في بعض جوانبها، ولم يركن قادة المؤتمر الوطني لهذه الأفكار وعدت مجرد آراء شخصية وإن تم استغلالها من قبل التيارات السياسية المناوئة للمؤتمر الوطني للتدليل على مدى التحيزات العرقية والمناطقية التي تنطوي عليها سياسات دولة المؤتمر الوطني، وإن الذي كفيل بوضع حد لمثل هذه الممارسات هو مشروع السودان الجديد، رسول خلاص (المهمشين)، وإن أدرك قادة المؤتمر الوطني الرهانات المعقودة على الحركة الشعبية ومشروعها السودان الجديد، فإنهم عملوا في فترة الانتخابات على مزاحمة الحركة الشعبية حتى في مناطق تعتبر مناطق نفوذها عبر بسط مشروعات التنمية، وفي ذلك رد ضمني على أطروحه عبد الرحيم حمدي. على شفا الانفصال: ومثلما كانت إتفاقية نيفاشا تحمل في أحشائها احتمال تمكين الحركة الشعبية من حكم السودان بأسره، كانت تضع احتمالات أخرى منها حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان المقرر له يناير 2011 ليقرروا إما البقاء في دولة السودان الموحد، أو اختيار دولتهم الجديدة، ولما فشل الرهان على الانتخابات كوسيلة، لتفكيك الإنقاذ آثروا إسراع الخطى نحو تشجيع الجنوب على الانفصال عن الشمال وتزيين ذلك لهم، وإن بدت للعيان عوامل فشل دولة جنوب السودان على الصمود والوقوف على قدميها بسبب التحديات المهولة التي تنطوي عليها. عضو المنتدب الوطني للفكر والاستكتاب