ü طالعتُ بتركيز وقائع ندوة الأزمة الاقتصادية السودانية التي انعقدت أمس الأول وشارك فيها خبراء ومسؤولون سابقون من ذوي الحَوْل والطول، وكان عنوان الندوة الأهم «التداعيات والحلول». وقد أجمع أولئك الخبراء- بحسب ما نقلته الصحف السودانية- الصادرة صباح أمس، على أن البلاد ستواجه «صدمة اقتصادية» خلال العامين المقبلين لن تتعافى منها إلا تدريجياً بحلول العام 2016. مؤكدين أن اقتصاد البلاد يمرُّ بأزمة في إدارة الموارد وأن مشكلة ميزانية السودانية «هيكلية» وليست «عجزاً طارئاً»، وحذروا من الخطر الذي يمثله اعتماد الموازنة العامة على الضرائب غير المباشرة. وهذا وحده كافٍ لبث الرعب في قلوب المواطنين «الما ناقصين» منغصات أو مكدرات. ü أبدع المسؤولون السابقون، المشاركون بحكم مسؤولياتهم السابقة، وربما اللاحقة في مرفق من مرافق الدولة الاقتصادية، في تشريح أسباب الأزمة، ومصدر «الإبداع» هو في التشخيص والاعتراف المتأخر، أو في «الجس البعد الضَبح». فأقرأ وكيل وزارة التجارة الأسبق الكندي يوسف يقول في تلك الندوة إن معظم «نتائج تطبيق سياسة التحرير جاءت مخالفة للتوقعات» لماذا؟ يعتذر الكندي ويتذرع بأن «تصريحات المسؤولين غير المختصين أربكت قيادات الدولة في التعامل مع الأزمة».. يا سلام!! ولماذا توكل «قيادات الدولة» شأن الاقتصاد لغير أهله وللمسؤولين غير المختصين حتى «تقع الفاس على الرأس» ولتكشف أنت وغيرك بأن ذلك أدى «إلى هروب 13 مليار دولار رأس مال سوداني إلى مصر واثيوبيا»؟! ولتعترف أنت أيضاً، كما اعترف وزير المالية والاقتصادي الوطني الحالي منذ أيام مضت بأن «سفر الدبلوماسيين وبند العلاج بالخارج شكل ضغطاً على الموارد». مسؤولية من كل هذا الارتباك الذي أدى إلى هرب المليارات «المتلتلة» و إلى سفر الدبلوماسيين والدستوريين الذين يجوبون الآفاق في «البتسوى والمابتسوى» وإلى علاج المسؤولين وعوائلهم في أرقى المستشفيات بالخارج بينما أبناء شعبهم «مدفوسين» ومكدسين في مستشفياتنا العامة التي تفتقر لأبسط مقومات المراكز الصحية وتعاني بيئتها من «الملوثات المركزة»!! ü أما وكيل وزارة المالية الأشهر «الشيخ المك» فقد عزا السبب الرئيسي وراء «الأزمة الحالية» لانفصال الجنوب وتوقع ناتجاً إجمالياً «سيئاً» خلال العام المقبل- بحسب «الصحافة»- وألقى باللائمة على من أسماها «الأجهزة المناط بها الصادرات غير النفطية» التي وصفها بالفاشلة.. والمقصود بهذه «الأجهزة» واضح، فهي أجهزة الدولة المسؤولة عن الزراعة والثروة الحيوانية وتلك المسؤولة عن الاستثمار في مختلف المجالات والتي لم تستفد من «الطفرة النفطية» وعائداتها من العملة الصعبة، وتلك مسؤولية الدولة بأجمعها وليس وزارة واحدة أو وزارتين أو ثلاثة، فلو أن الدولة في مرجعياتها العليا- صاحبة الأمر والنهي- قررت توجيه تلك الموارد للاستثمار في الزراعة والصناعة والثروة الحيوانية مثلاً لما تردد المسؤولين في المستويات الأدنى- الثانية أو الثالثة- من تنفيذ الأوامر والسياسات العليا، وهذه حقيقة لا يحتاج فهمها «لدرس عصر». لكن الشيخ لم يقف عند لوم «أجهزة الصادرات غير النفطية» بل ذهب إلى ابداء «الأسف» على تصرف وزارة المالية في «حساب تركيز النفط البالغ 2 مليار دولار» حتى بعد الانفصال، وأكد أن «العجز في الميزان التجاري بلغ 5.4 مليار دولار»، مشيراً إلى أن اتفاق حكومة الشمال مع حكومة الجنوب على منح الشمال من نصيب النفط مليار دولار سنوياً يتناقصْ تدريجياً بجانب ايجار خط النفط الأمر الذي يخفف حوالي 30% من الفاقد الإيرادي. ولا ندري مدى دقة هذه المعلومة على «المنحة الجنوبية» البالغة مليار دولار سنوياً، فما هو معلوم ومنشور أن اللجان الشمالية- الجنوبية لم تتوصل حتى اليوم إلى اتفاق ولم يتم الإعلان إلا فتح 10 مسارات للتواصل الشمالي الجنوبي باتفاق وزيري الدفاع في البلدين. واتفق المك مع زميله الكندي في أن «الانفاق الحكومي أغلبه سيادي» سواء للسفر للخارج أو المرتبات والمخصصات المليونية أو «العلاج الأجنبي».. وسار باقي المتحدثون في الندوة على ذات النهج. ü اللافت حقاً في وقائع تلك الندوة الاقتصادية هو أنها ذهبت إلى تشخيص الحالة و «التداعيات» المترتبة عليها، لكنها- من أسف- لم تقدم «حلولاً» للكيفية التي يمكن مواجهة هذه التداعيات الخطرة عبرها. وكل ما استطاعهُ الشيخ المك هو الإفضاء ببعض كلمات «الرثاء» في حق الشعب السوداني فقال: «إن الشعب السوداني صبر على الانقاذ كثيراً، وإن الصبر له حدود» والجملة الأخيرة تحمل نوعاً من التحذير المبطن إلى جانب الرثاء، وقال أيضاً إن «الشعب السوداني يستحق أن يكافأ على صبره هذا» لكنه لم يقل كيف تكون هذه المكافأة ولم يُفصل. وتحذير المك تزايد مع تحذير الأمين العام للمؤتمر الشعبي الدكتور حسن الترابي مرشد الانقاذ السابق، الذي «حذر الحكومة من الغضب الشعبي جراء الأوضاع الاقتصادية السيئة» وتنبأ بأن يقود هذا الغضب إلى «أعمال عنف مدمرة» ونفى في الوقت ذاته وقوف حزبه أو قوى المعارضة خلف الاحتجاجات التي ظهرت في عدة مناطق بالخرطوم بعد تفاقم الضائقة المعيشية، وفق اتهامات بعض المسؤولين، وأكد الترابي في تصريحات ل«سودان تربيون» أن الأحزاب لم تسع لتحريك الشارع لكن الناس مواجهون بأوضاع صعبة يفاقمها انقطاع المياه والكهرباء والغلاء الفاحش. ü بما أن الترابي- شخصياً- ليس ممن يخشون غضب تلاميذه في الحكومة، ويقول ما يعنُّ له ويبدي استعداده لدفع الثمن كما شهدنا مراراً خلال السنوات المنصرمة منذ «المفاصلة»، فذلك يجعلنا نرجح صدق ما ذهب إليه من أن المشكلة ليس بين الأحزاب والحكومة أو أن الأحزاب «تحرش» الشعب على الحكومة وتغريه بها كما يفعل الصياد بين كلبه أو صقره والطريدة، إنما هناك ظروفاً موضوعية معلومة ومعترف بها حتى من قبل المسؤولين هي التي تحرك الشارع، وتضع الحكومة وأجهزتها في مواجهة الشعب. وللتذكير فقط نقول إن ثورات الربيع العربي في تونس أو في مصر واليمن وسوريا من بعد لم تحركها الأحزاب السياسية أنما حركتها الضغوط وشعور الشعب بغياب الحرية وانتشار الفقر والبطالة واليأس من صلاح الأحوال وانتشار الفساد في أوساط قلة تملك كل شيء في مواجهة شعب لا يملك ما يقيم الأودَ أو يحفظ الكرامة.. فعلى الحكومة أن تنسى «الأحزاب» وتنشغل «بالشعب» وتتدبر شؤونه وشجونه قبل فوات الأوان وتوفر له الحرية والخبز والطمأنينة العامة، و «ليكم عليّ بعد داك ما في مشكلة»!