تحدثنا في الحلقة الماضية عن نشأة الحصانة البرلمانية، وعن مرجعيتها الدستورية، وأوردنا طائفة من السوابق البرلمانية السودانية في هذا المجال، ولقد رأينا أن نتناول في حلقة هذا الأسبوع موقف الدساتير السودانية السابقة من امتياز الحصانة، وما عليه العمل في الدول الأخرى. باستثناء دستوري 1973 المايوي، و1998 الإنقاذي، يُلاحظ أن الدساتير السودانية المتعاقبة، قد التزمت فقط بالحصانة السياسية التي تحظر ملاحقة العضو قضائياً بسبب أقواله داخل البرلمان أو اقتراعه، ولم تتطرق تلك الدساتير للحصانة الإجرائية إطلاقاً. فالمادة (49) من دستور الحكم الذاتي لسنة 1953 على سبيل الاستشهاد، كفلت حرية الكلام داخل البرلمان، وأكدت على عدم مؤاخذة العضو على أي شيء قاله، أو صوت أدلى به، ولقد انتقل ذات النص حرفياً إلى الدساتير اللاحقة، دستور 1956 و1964 و1985، والتعديل الوحيد الذي أدخل عليه كان في دستور 1985 (دستور الانتفاضة)، إذ حُذفت الإشارة للتصويت، وكانت تلك لفتة جيدة، ذلك لأنه لا يمكن تصور أن تنطوي عملية التصويت سواء بالفم أو الأيادي، على جريمة أو مخالفة للقانون. أمّا دستور 1973 الدائم، فقد توسع بشكل كبير في نطاق الحماية، إذ نص على الحصانة السياسية والإجرائية معاً، وأدخل أعمال اللجان أسوة بمداولات المجلس، بل إنه اشترط بالإضافة إلى إخطار رئيس المجلس- قبل مباشرة الإجراءات الجنائية ضد العضو- تقديم شهادة بعدم صلة الإتهام بعمل العضو بمجلس الشعب. وعلي ذات النسق سار دستور 1998 الذي مدد الحصانة لتشمل ليس فقط شخص العضو، بل كذلك مسكنه وممتلكاته العقارية والمنقولة، كما لم يكتفِ بالإخطار، واشترط الحصول أيضاً على إذن صريح ومكتوب من رئيس المجلس، وتوسع نطاق الحصانة ليظلل كافة تصرفات العضو المرتبطة بأدائه البرلماني، ولو تمت خارج مقر المجلس. ولقد سلفت الإشارة في الحلقة الماضية إلى أن نشأة الحصانة البرلمانية تعود إلى التطورات التاريخية للتجربة البريطانية، لهذا جرى العرف- حتى اليوم- على أن يستهل رئيس مجلس العموم البريطاني جلسات المجلس الجديد بتقديم إلتماس للملكة، أن تؤكد احترام حكومتها للحصانات والامتيازات البرلمانية. ومن المفارقات أن الحصانة الإجرائية البرلمانية، لا تطال في البلد الذي ترعرعت فيه الدعاوى الجنائية، إذ تنحصر في الحماية من الاعتقال الناجم عن الدعاوى المدنية فقط، أمّا بالنسبة للحصانة السياسية، فقد حظرت المادة (9) من شرعة الحقوق Bill Of Rights، على المحاكم التعقيب على ما يُثار داخل البرلمان، وبذات القدر يضفي الدستور الأمريكي حماية مماثلة على أعضاء الكونجرس، فلا يُساءلوا عن ما يقولونه، ولا يجوز توقيفهم أثناء حضورهم أو مغادرتهم لمقر الكونجرس، وذلك باستثناء الجرائم الكبرى والخيانة العظمى. ولقد أخذت جميع الدول العربية بمبدأ الحصانة البرلمانية، مع اختلافات في التفاصيل، ففي لبنان والجزائر مثلاً يُقرر البرلمان بكامل هيئته في طلب رفع الحصانة ولا تترك للرئيس منفرداً، وفي اليمن لا تطال الحماية حالات السب والقذف، وفي مصر تنحصر الحماية في الحصانة الإجرائية. ومن الضوابط الجوهرية للحصانة البرلمانية، عدم انطباقها في حالة التلبس، والذي يعني ضبط المتهم متورطاً بالجرم المشهود، إذ ينتفي في هذه الظروف احتمال الاتهام الكاذب أو الكيدي، بيد أن السؤال الذي يثور- في غير حالات التلبس- يتعلق بالجهة التي تقرر أن الاتهام كيدي، فإذا قلنا إنها رئاسة المجلس، فهل تملك الرئاسة أن تفصل في هذا الأمر دون إجراء تحريات أو تقويم ووزن للبينات؟.. وهل يجوز لرئيس المجلس أن يحل محل الأجهزة العدلية من نيابة أو قضاء؟.. الأصوب في اعتقادي أن تقف صلاحيات رئيس المجلس عند التأكد من توفر بينة أولية دون خوض في التفاصيل، فإن تثبت من ذلك وجه برفع الحصانة فوراً، تاركاً للأجهزة العدلية أن تحدد المسؤولية الجنائية للعضو المتهم، ذلك أقرب للعدالة وفيه رفع للحرج عن رئيس المجلس. في سابقة معروفة، اتهم أحد المرشحين في الانتخابات، مسؤولاً حكومياً باستخدام الأساليب الفاسدة مناصرة لمرشح آخر، وعندما قُدم طلب رفع الحصانة عن ذلك المسؤول، رفضت الجهة المعنية الطلب، بدعوى أنه لا توجد بينات كافية، وبذا حلت تلك الجهة محل الأجهزة العدلية، وأضحت حكماً وخصماً في آن واحد. ومما يزيد من خطورة هذا المسلك، أن العقود الأخيرة شهدت توسعاً ملحوظاً في نطاق الحصانة الإجرائية، ذلك أنها تشمل اليوم جميع أعضاء المجالس التشريعية الاتحادية والولائية وحتى المحلية، بالإضافة إلى شاغلي المناصب الدستورية على كافة المستويات، والوزراء، والولاء والمعتمدين، ورؤساء المحليات، وكل منسوبي القوات النظامية، والقضاة والمستشارين والمحامين، وأعضاء المفوضيات المستقلة. ومن شأن هذا التمدد الكبير، أن يمس مبدأ المساواة أمام القانون، وحق التقاضي وهو حق دستوري أصيل ورفيع، ومن الأصوب أن تنحصر الحماية في فئات معينة، وأن تلتزم السلطات المعنية برفع الحصانة بضوابط موضوعية، وأن لا تسعى لحماية منسوبيها، والخيار الأفضل هو الاكتفاء بالإخطار لا الإذن، والإخطار المسبق يعطي هذه السلطات الوقت والفرصة لاتخاذ التدابير اللازمة للتعامل مع الموقف. في حادثة شهيرة أطلق أحد أفراد القوات النظامية وكان برتبة جندي عادي، النار من سلاح آلي، ومن مسافة قريبة، على أحد الصبية الصغار بسبب مشادة عابرة، وأصُيب المجني عليه إصابات بالغة نجم عنها عجز جزئي، وعندما طالبت النيابة الجهة المختصة برفع الحصانة، تأخر الرد شهوراً طوالاً، الأمر الذي أضطر ذوي المجني عليه للوصول إلى الوزير، وهو الجهة المنوط بها إعطاء الإذن، وتبين لاحقاً أن الوزير لم يكن في الصورة تماماً، وأن الأوراق لم تصل مكتبه، ورغم أن الوزير اتخذ الإجراءات اللازمة برفع الحصانة، وإجراء تحقيق في الأمر وتعويض المجني عليه، إلا أن القضية نبهت إلى المآلات المؤسفة التي قد تترتب على التوسع في الحصانات دون ضبط ذلك بتدابير صارمة وعادلة. والله من وراء القصد..