بدا لي وأنا أتابع الليلة الماضية قناة «الأخبارية السورية» أن نظام بشار الأسد وأعوانه غير مصدق، بل آخر ما كان يتوقعه، أن تتخذ جامعة الدول العربية قراراً بتعليق عضويته بالجامعة إلى حين التنفيذ الفعلي لبنود خطة العمل العربية التي تجاهلها وتعامل معها كأنها لم تكن، و واصل نهجه القمعي وأولغ في دماء شعبه بلا رحمة برغم موافقته اللفظية على تلك الخطة القاضية بوقف العنف وسحب المظاهر والآليات المسلحة من الشوارع والمدن وإطلاق سراح المعتقلين والدخول في حوار مع المعارضيين. ü قناة «الأخبارية السورية»، وهي في مرحلة «البث التجريبي»، تعيدك على الفور لقنوات «الجماهيرية» المقبورة، تختلط فيها الأخبار بالتعليقات الجزافية فلا تعرف ما هو الخبر وما هو التعليق، ولا تتورع من استخدام أقذع الشتائم وأرذل التوصيفات في حق من تعتبرهم معارضي النظام، سوريين كانوا أم عرباً، أشخاصاً أم دولاً. تقول -مثلاً- تعليقاً على قرار الجامعة: الآن انكشف الغطاء واكتملت فصول المؤامرة، فعربان وغربان النفط والغاز الذين طالما دافعت سوريا عن عزتهم وكرامتهم جاءتهم التوجيهات من وراء المحيطات، وكانت المقدمة تخلي محمود عباس عن رئاسة مجلس الجامعة لصالح «حمد القطري» الذي رفع التقارير المستندة إلى معلومات صحفية مفبركة لتتخذ ما اتخذته بتوصية من «غلمان الصحراء»، وتاريخ «العربان» يؤكد أنهم لا يملكون إستراتيجيات خاصة بهم إنما ينفذون توجيهات أسيادهم، ومنها هذه العقوبات التي تستهدف الشعب السوري. ü بثت القناة أخبارها وتعليقاتها على قرار الجامعة على هذا النحو وبمثل هذه اللغة، مصحوباً بتظاهرات مصنوعة استهدفت سفارات دول عربية، وفي مقدمتها قطر والسعودية اللتان لم تسلما من الهجمات والتعديات برغم تظاهر عسكر النظام وأجهزته الأمنية بالقيام بواجب الحماية، لكن المنظر في مجمله والهتافات باسم «الله وبشار وسوريا.. وبس» تذكرك برغم عنك بما كان يحدث أيضاً أمام «باب العزيزية» وفي «الساحة الخضراء» في ليبيا معمر القذافي. ü وكما سلفت الإشارة، فإن آخر ما كان يتوقعه نظام بشار الأسد، وكثير من المراقبين أن يلجأ وزراء الخارجية العرب وبأغلبية ساحقة -(18) مقابل ثلاثة رافضين هم، سوريا ولبنان واليمن وممتنع واحد هو العراق- إلى اتخاذ قرار بهذه القوة في مواجهة دمشق، التي لعبت على «حساسية واستثنائية» وضعها الجيوستراتيجي في المنطقة وراهنت عليه لإضافة جميع الأطراف -عرباً وأجانب- بأن أي مساس بنظامها يعني زلزالاً يدمر المنطقة برمتها، فسوريا كما قال بشار تقع في خط «صفائح الزلزال». وبالأمس واصل المتحدثون باسم النظام التهديد والوعيد بأن أي مساس بسوريا حتى من أجل حماية المدنيين من القتل والقمع سيطال الشرق الأوسط كله من المحيط إلى الخليج. ü ربما أفلحت تهديدات سوريا وتوعداتها في إضفاء بعض «الصياغات الدبلوماسية» على قرار الجامعة الصادر أمس الأول «السبت»، حيث استخدم القرار عبارة «التعليق» عوضاً عن «التجميد»، وأعطى مهلة أربعة أيام ليبدأ تطبيقه ابتداءً من السادس عشر من الشهر الحالي بدل التنفيذ الفوري، وذلك من تاريخ انعقاد المجلس في الرباط بالمغرب بحضور تركيا. لكن النظر المتفحص لبنود القرار الأخرى يؤكد الخطر الكبير الذي ينطوي عليه بالنسبة للنظام السوري برغم هذه الصياغات الدبلوماسية التي لم تخل من مجاملة شكلية، فطلب الجامعة من الدول العربية سحب سفرائها -بالرغم من اعتباره قراراً سيادياً يخص تلك الدول، وهذا طبيعي- والاتفاق المبدئي على توقيع عقوبات اقتصادية وسياسية على الحكومة السورية، ودعوة أطراف المعارضة السورية للاجتماع في مقر الجامعة العربية خلال ثلاثة أيام «للاتفاق على رؤية موحدة للمرحلة الانتقالية»، وليقرر المجلس من ثم ما يراه مناسباً بشأن «الاعتراف بالمعارضة السورية» وتوفير الحماية للمدنيين عبر «المنظمات العربية المعنية»، وفي حال عدم توقف العنف والقتل «يقوم الأمين العام بالاتصال الفوري بالمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، بما فيها الأممالمتحدة». النظر المتفحص في هذه البنود يؤكد أن الجامعة العربية كمنظمة إقليمية قد وصلت إلى حد القنوط وإلى قناعة تامة بأنه لا فائدة من تكرار المحاولة مع النظام السوري، وهي محاولات ومساع استمرت على مدى أربعة شهور -كما قال الأمين العام نبيل العربي- في معرض تسبيبه وتبريره للقرار الجديد. فعملياً رفعت الجامعة يدها عن الموضوع وفتحت الباب على مصراعيه للمجتمع الدولي لممارسة مسؤولياته تجاه ما يحدث في سوريا، وليبحث هذا المجتمع عن مخرج آمن للشعب السوري الذي يتخطف الموت أرواح بنيه بالعشرات على مدى ثمانية أشهر حسوما. ü قرار الجامعة وجد صدىً طيباً لدى الثوار والمعارضين السوريين، فوصفه رئيس المجلس الوطني برهان غليون بأنه يشدِّد العزلة ويضيِّق الخناق على نظام بشار ويزيد من التلاحم بين الشعب والثوار، بينما وصفه هيثم مناع القيادي في صفوف هيئة التنسيق السورية بأنه أعطى «جرعة أكسجين» لقرار الجامعة السابق وعبر عن أمله في مزيد من الجرعات حتى يبقى الحل عربياً ويجنب سوريا التدخل الدولي، وهو أملٌ لا يبدو أنه سهل المنال في ظل حالة الهستيريا والتشنج التي اعترت النظام فور صدور القرار، وفي ضوء التربية السياسية للأنظمة البعثية التي اشتهرت تاريخياً باتخاذ العنف والتصفيات سبيلاً للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها حتى بالنسبة للرفاق الحزبيين، ناهيك عمّن يصنفون في خانة الأعداء. ü لم تمض سوى ساعات قليلة حتى جاءت الإشادات وعبارات الترحيب تترى من أعضاء المجتمع الدولي، فالرئيس الأمريكي أوباما رحب بالقرار وقال إن «هذه الخطوات الملموسة تكشف العزلة الدبلوماسية المتزايدة لنظام دأب على انتهاك حقوق الإنسان وقمع الاحتجاجات السلمية»، وأضاف قوله «سيستمر العمل مع أصدقائنا وحلفائنا للضغط على نظام الأسد ومساندة الشعب السوري في سعيه من أجل الكرامة والانتقال إلى الديمقراطية التي يستحقها»، وكذلك صدرت أقوال مماثلة من وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا والمانيا. بينما صدر عن روسيا على لسان وزير خارجيتها سيرجي لافيروف ما يشبه الاستنكار للقرار، ومع ذلك ذلك يتوقع المراقبون أن تعيد كل من روسيا والصين النظر في موقفهما المؤيد لنظام بشار إذا ما أجمع العالم على عزله ومعاقبته، تماماً كما فعلتا في الحالة الليبية، فمصلحة البلدين ستتغلب في النهاية على العواطف السياسية. ü وبرغم المهلة القصيرة والمشروطة التي منحها القرار للنظام السوري «أربعة أيام» فلا يلوح في الأفق أي احتمال لتسوية سياسية للأزمة، فالفجوة بين النظام ومعارضيه أوسع وأعمق من أن يتم تجسيرها، كما أن الجامعة العربية لا تملك من الآليات والوسائل التي تستطيع عبرها فرض حل على النظام، ما يبدو معه أن التدخل الدولي، مهما اختلفت وسائله وتباينت، هو الملجأ الأخير أو القدر المقدور، برغم ما ينطوي عليه من شرور.. وتلك إرادة النظام السوري، للأسف!!