ركنان تستند إليهما نواةُ كلِّ أمة، وهذان الركنان هما الرجل والمرأة، والنواة هي الأسرة، فالأمة التي تعتني بالحياة الأسرية المتماسكة لاريب أنها أدركت أسرار بناء مجتمع يتحَنَّف عن كلِّ عوامل التَّصدُّع وهشاشة الترابط، ويُبحر نحو تقوية أواصر الوحدة، وتوفير عناصر البناء الاجتماعي المعافى من أدواءالتأخر ومن معوِّقات مواكبة سير ركب الحضارة القائمة على أساس تحقيق قيمة الإنسان وتأهيله لحمل أمانة الخلافة على الأرض. لقد سادت في غابر تأريخ الإنسانية أفكار سقيمة هبطت بمستوى قيمة المرأة وذلك بسبب رحيل المجتمعات من مضارب الدعوة السماوية، لقد طفا على سطح حلقات الحوار خلال حقبٍ من التأريخ نقاشٌ يبحث في جوهر شخصية المرأة وتحديد مكانتها في المجتمع، ودارت آراء حول إخراجها من دائرة الإنسان إلى دوائر مخلوقات أقل قيمة وأدنى درجة، وقد نسي حملةُ هذه الأفكار المبدأ الضاربةُ جذورُه في عمق الأرض، والمعانقة أفنانه للعنان، وهو مبدأ الخلق من نفس واحدة «يا أيُّها النَّاسُ اتقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رِجالاً كثيراً ونِساء..» النساء (1). إن ما عليه فريق من المفسرين القول بنجاة أربعين رجلاً وأربعين امرأة مع نوح عليه السلام، وفي عهد إبراهيم عليه السلام لن ننسى موقف هاجر عندما تركها وابنها.. لقد تركهما في مكان قفرٍ، فقالت له: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم قالت: إذاً فلن يُضيِّعنا، ومريم ابنة عمران التي تخرَّجت في معهد اليقين بالله وأصبحت قمةً من قمم تأريخ البشرية المشرق، ماذا قالت لزكريا عليه السلام عندما سألها عن ألوان الرزق التي تقاطرت عليها في المحراب؟ لقد قالت له وهي مرفوعة الرأس، رابطة الجأش، وبإيمان صادق: هو من عند الله، وأم موسى عليه السلام تُلقي بفلذة كبدها في اليمِّ وهو في يومه الأول من عمره. يأتي الإسلام بعد هذه النماذج ليهز أركان الجاهلية التي كانت تعتبر المرأة جزءاً من متاع الميراث الذي يؤول إلى الابن بعد موت أبيه بما في ذلك أمه. كرَّر النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ حُسن الصُّحبة ثلاث مرات في الحديث وخصَّ بها الأم ثم أتبعها بالأب في الرابعة، وذكر القرآن الكريم في معرض الوصية بالوالدين دور الأم مُركِّزا عليه، ولعل في ذلك تكمن الحكمة التي تقضي بإيقاظ إحساس الأبناء ليتبيَّنوا ما عانتهُ الأم في سبيل صياغة أنفسهم خلال فترة من الزمن كان ذلك الإحساس فيها غائباً نتاجاً لحداثة عهدهم بالحياة، أما الوالد فدوره يأتي بعد اكتمال وعيهم وإدراكهم فيعيشون ذلك الدور واقعاً ملموساً لايحتاج لشرح أو تفصيل. إذا امتدَّ بنا الحديث عن المرأة وبخاصة في عيون الإسلام، فإن الصفحات لتنوء بحمل الأمثلة المضيئة بالحكمة والنصيحة والإدارة والعلم إلى غير ذلك من عوامل تكوين صيغة حياة المسلمين. وقفت السيدة خديجة سنداً قوياً في طور بناء لبنات النبوَّة، فمما يُحكى عنها عند ظهور جبريل عليه السلام كانت تقول له صلى الله عليه وسلم: اقعد بجانبي ثم تضيف بقولها: أتراه؟ فيقول: نعم، ثم تكشف عن نحرها وتقول: أتراه؟ فيقول: لا، وتقول رضي الله عنها: إذاً ليس هو بشيطان، والسيدة عائشة التي روت من الأحاديث قدراً يضعها في مقدمة الرواة الثقات، والشفَّاء التي أدارت شؤون سوق المدينةالمنورة، وخولة بنت ثعلبة التي سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ومنحها الشجاعة الأدبية التي مكَّنتها من الوقوف في وجه عمر بن الخطاب ناصحةً واستجاب لها، وأم سلمة وقد قامت بدور المستشار السياسي الحكيم عندما جاءها صلى الله عليه وسلم يشكو موقف صحابته وقد رفضوا الرجوع دون أداء العمرة، قالت له: يا محمد إنهم قوم مكروبون، فامْضِ في شأنك ولا تكلمهم، فإن لمسوا منك إصراراً تبعوك، ففعل صلى الله عليه وسلم وفعلوا. بعد هذه الأمثلة التي تشير إلى غيض من فيض التجارب مع المرأة فإني أقول: إن الحوار الذي يجري خلال القرن الحادي والعشرين حول دور المرأة وحقوقها هو معركة في غير معترك، فإن كانت هنالك فئات قد ظلمت المرأة في أحكامها فينبغي إهمالها إذ أن التأريخ قمين بإيقاظها من وهدتها، ولعل القضية التي يجب تناولها هي متعلقة بالوظائف الرئيسة التي تعتمدها الأمة أساساً لبنيان المجتمع السليم والمعافى من أدواء التَّصدُّع الناتجة عن ضعف الروابط الأسرية، ففي هذا الإطار لابد من مراعاة الأولويات، فعلى سبيل المثال هنالك وظائف مقصورٌ أداؤها على المرأة ولايستطيع الرجل القيام بها، فإن استطعنا إقامة هذه الموازنة بحيث لايتعدى العمل العام على الرسالة الأساس فإننا بذلك نكون قد أرسينا قواعد المعادلة العادلة ولا تعنينا من بعد ذلك تلك الممارسات الظالمة في حق المرأة فالزمن كفيل بعزلها وإفنائها وآلياته في ذلك شباب ينشأ في ظل أسرة تُربَّي في حضن أمومة دافئة وأبوة دافعة نحو مجتمع متماسك الأوصال.