توقفت بالأمس عند كلمات الدكتور غازي صلاح الدين وهو يحثني على الاسترسال.. صمت برهة ثم تلفت يمنة ويسرة.. لألمح الرئيس ورئيس المؤتمر وهو يبتسم والابتسامة ترجمتها فوراً وفسرتها بأنها تثنية لاقتراح الدكتور غازي لأواصل حديثي في ذاك المؤتمر المفصلي في الحياة السياسية بالسودان.. عندها أدركت أن اقتراح مواصلتي الحديث قد فاز عنوة واقتداراً ولم اهتم كثيراً بذاك الغضب المضري الذي رسم ظلالاً على وجه أشد قادة الإنقاذ قوة وشراسة وهو نفس الذي «خبط» التربيزة بيده.. بل رددت في سري وقبل المواصلة.. إني قد نجحت أخيراً في «لحس كوعي» وطفقت أردد «سراً» بالطبع.. والعزال كدناهم وفي لحظة نسيناهم.. حققنا أحلامنا وكل ثائر عقبالو.. وواصلت مخاطباً الأحبة الأعضاء قائلاً.. أيها الإخوة الأحباب.. بالله عليكم ماذا حققنا لشعبنا الذي صبر علينا كما لم يصبر على حكومة قط.. لماذا ذاك الرهق وتلك الحياة البائسة التي يتقلب في لهب سعيرها.. ولماذا ترسم تلك التكشيرة البائسة على وجوه أبناء شعبنا المكدود.. وهل نحن كلنا نعاني ونقاسي ما يقاسون.. بالله عليكم دعوني استلف كلمات أخ كريم من أخواننا من أبناء الكنانة مصر المحروسة.. إنه هاشم الرفاعي وهو يرسم صورة محكوم بالإعدام في ليلة التنفيذ.. وإنه إن طلع الصباح على الدنيا وأضاء ضوء الشمس كل مكان.. واستقبل العصفور بين غصونه يوماً جديداً مشرق الألوان.. هذا يا إخوتي حالنا نحن معشر المؤتمرين.. نستقبل الصباح كل يوم وهو مشرق الألوان.. بينما يستقبله السواد الأعظم من شعبنا وهو لا يعدو أن يكون هما وتنكيد.. وأسألكم بالذي بعث النبي بالحق.. هل بات أحدكم يوماً على الطوى.. أسألكم بمرسل الرياح.. هل منكم من طرد ابنه أو ابنته من المدرسة أو الجامعة لتعذر الرسوم.. أسألكم هل أبناؤنا لا يجدون وظائف.. يتسكعون من ضل إلى ضل ومن عمود كهرباء إلى برندة فوال.. لماذا نحن نطوي الفضاء طياً نشداً للعلاج المترف الرصين في الأردن وبريطانيا.. والفقراء من بين صفوفنا إلى القاهرة.. وأبناء شعبنا تكتظ بهم المستشفيات والمشافي شحيحة الدواء.. غالية وعالية الكلفة لماذا هذا وإلى متى هذا.. أيها الأحبة الأعضاء الأخوان.. إلى متى يستمع المواطن إلى المسؤولين وهم يعلنون عبر الإعلام.. كل لحظة كل يوم كل ثانية.. أن الحياة رخاء.. وأن المواسم الزراعية في كامل النجاح.. وأن المشافي تعمل في كفاءة ومهارة.. وأن أطناناً من السكر بالأسواق وأن قناطير مقنطرة.. أوتلال وجبال من العيش تسد عين الشمس.. وأن الأسعار تحت قيود وكوابح الانفلات.. وعندما يخرج هذا المواطن يفاجأ.. بأنه الغني وأمواله المواعيد.. أيها الإخوة الأعضاء.. نعم لقد كانت هناك ضرورات قصوى.. في أوائل تصدينا لمسؤولية الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور تحت مظلة الشرعية الثورية.. وها نحن بعد اثنين وعشرين سنة وتزيد.. ما زلنا نواجه استحقاق أولئك الذين أطاح بهم سيف التطهير وما زلنا نجابه تداعيات ذاك الفصل والتشريد من العمل في مخالفة لأبسط حقوق الإنسان التي يأتي في مقدمتها حق العمل.. اعلموا يا أحبة ويا أحباب أن مقصلة الصالح العام.. وسكين «التمكين» قد شتتت شمل الأسر.. وبددت سلام المجتمع.. وأن أرباب أسر قد وجدوا أنفسهم في الشارع العريض.. تخترقهم نظرات أطفالهم الجوعى.. ويشعل النار في قلوبهم أنين الزوجة.. وأن منهم من اختفى هرباً من المسؤولية التي لا يملك لها دفعاً.. ومنهم من احتوته المنافي والمهاجر.. ومنهم من مات كمداً.. ومنهم من «جن» و منهم من تنكب الطريق وانسدت أمامه الدروب وانطفأت حوله وفي تجاويف صدره شعلة الأمل.. كيف نواجه بل كيف نحمل هذه الظلامات على ظهورنا من الآن وحتى يوم الدين.. أيها الأحبة الأخوان.. ما زال في الوقت متسع للإصلاح وتقويم التجربة والعودة إلى جادة الطريق.. بالله عليكم لا تغرنكم تلك القوة الرهيبة التي نمتلكها.. لا تحشد صدوركم بالغرور قوة النيران الهائلة التي في حوزتنا.. نعم إن رياح الربيع العربي قد تبدو بعيدة.. وإن جماهير شعبنا سوف تنتظر طويلاً حتى تهب.. ولكن أرجو منكم قراءة وتدبر كلمات الله المطهرة.. نعم نحن قد نراه بعيداً ورب العزة مالك الملك يراه قريباً.. وأنا أخشى عليكم وعلى نفسي من ذاك اليوم الذي لا يظلم فيه عند الله أحد.. دعونا لا نحمل كل تلك الأوزار حتى ذاك اليوم الرهيب.. واعلموا يا أحبة.. أنه ما وردت كلمة المترفين في كتاب الله المطهر إلا ورافقها الوعيد بالعذاب الأليم.. إخوتي أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم..