سألني حفيدي الصغير.. (ياجدو أنت لو ما كنت معلم- كنت حتبقى شنو؟!) رددت عليه وبصدق.. كنت سأكون معلماً.. وقد كتبت قبلاً عن تجربتي مع العمل بالتدريس التي وجدت فيها نفسي.. وتمكنت من تنمية هواياتي الأخرى.. الأدبية، والصحفية والترجمة.. وفي العام 1967م تمت إعارتي للمملكة العربية السعودية .. وعدت بعدها.. ولكن أهلي رأوا أن أعود إلى مراحي.. وقد كنت أول من شق عصا الطاعة وعمل بالوظيفة.. وتحت الإغراء.. أستجبت لرغبتهم وقدمت استقالتي.. وعملت تسوية.. أظنها تسمى (تأمين معاشي).. بلغت جملتها تسعمائة جنيه- ومع ذلك أنا من فقراء القوم- أخذت مبلغ التسعمائة.. ودخلت السوق.. وكانت (رأسمال) جيد لمن له خبرة.. وأول ما أصطدمت به في السوق المعاملة.. أهلاً يا أستاذ.. تفضل يا أستاذ .. تشرب أيه يا أستاذ؟.. لم يقتنع أحد أنني لم أعد أستاذاً.. وتجربة أخرى من التجارب العديدة بالسوق.. تاجر من الأقاليم تعرفت عليه في محل عمي.. شجعنشي كثيراً أن أشحن بضاعة آتيه بها في بلدته، وقال يوم وصول البضاعة.. تحضر أنت لنا بالطائرة تستلمها.. ونضع لك ربحاً على الفاتورة.. نسبته (عشرة بالمائة) وتاني يوم تأخذ طائرتك وتعود.. قلت حسناً.. ولكن ماهي البضاعة التي أجلبها؟!.. قال بالحرف (تُراب).. يعني أي شئ.. وجهز لي ابن عمي عبد الرحمن.. قائمة بالبضائع التي يقبل عليها تجار ذلك الاقليم وشحنها بلوري.. وحدد الأسعار.. وجهز (الفاتورة).. واتصل وتأكد من وصول البضاعة.. يعني قام عني بكل شيء.. جزاه الله خيراً.. وأخذت الطائرة إلى الاقليم.. وأقمت بأحد الفنادق.. واتصلت بالتاجر.. وأبلغته بوصولي.. وفي المساء أرسل أخاه ليأخذني إلى منزلهم.. وتعشيت معهم وعدت إلى الفندق.. وجئت صباحاً لمحلهم بالسوق.. وبقيت حتى الثانية.. أخبرني رداً على سؤالي.. أنه (رامي صاجات) في السوق- تعبير يستعملونه لمن هو ساع في بيع بضاعة للآخرين.. وهي صورة من الصاجات التي يرمونها أمام الشاحنة في حالة مرورها بأرض رملية حتى تعبر عليها.. ولا تغطس عجلاتها في الرمل.. المهم بقيت في انتظار هذه الصاجات اسبوعين، عدت بعدها إلى الخرطوم بوعد منهم (هو وإخوانه الذين يعملون معه في المحل)، أن تكون قيمة البضاعة جاهزة عند رجوعي من العاصمة.. وكلما اتصلت بهم جددوا الموعد وبعد شهر رجعت إلى الاقليم.. وظللت اسبوعين آخرين بلا جدوى، ولم أرتح لكثير من ممارساتهم في العمل.. وفقدت الأمل.. وأشفقت على مصير بضاعة عمي.. فلجأت إلى مساعد المحافظ الذي كانت تربطني به صلة صداقة.. وجاء إلى محلهم وأجبرهم على تسليمي بضاعتي ا لموجودة بالمخازن ومحاسبتي على ما باعوه منها.. ولو بسعر فاتورتها- أي بدون أي أرباح- وتسلمت البضاعة الموجودة وشحنتها.. وتججوا بعدم وجود (سيولة).. وحرروا لي شيكاً.. رده البنك.. سلمته إلى محام قام برفع قضية.. وجاء الرجل متوسلاً لعمي.. الذي طلب مني شطب القضية، وتحمل هو الخسارة.. وخسرت أنا قيمة أربع رحلات بالطائرة... والاقامة بالفندق.. ومصاريف الشحن.. وكسبت الفشل في التجربة. أحد أصحاب المصانع.. أراد أن يبرني.. فخصص لي (كوتة) من انتاج مصنعه الذي كان رائجاً في السوق.. ولكنه أشرك معي أحد أقاربه.. وكانت (الكوتة) تخرج من المصنع باسمي.. ويتسلمها قريبه، ويبيعها في السوق.. ويقسم معي الأرباح.. فوجئت بعد مدة بمطالبة من مصلحة الضرائب بمبلغ تسعمائة جنيه على تلك (الكوتات).. وقد ذكرت لكم ماذا تعني التسعمائة جنيه في ذلك الحين.. كان هذا في زمن حكم الرئيس السابق جعفر النميري.. وكانوا يشددون في المطالبات بالضرائب.. حتى أشاعوا أنهم سيطبقون الجلد والحبس لمن لا يدفع ضرائبه.. وأشفقت الأسرة على تشخصي الضعيف.. وأخرجت الحاجة كل ما كانت تملك من الحلي الذهبية.. وباعتها من وراء ظهري وأتت بالمبلغ لأسدد به الضرائب.. على أن أردها لها متى ما يتيسر الحال.. زميل وأخ وصديق.. بعد عودتنا من الاغتراب.. صار مدير مبيعات بأحد المصانع التي كان انتاجها مرغوباً.. فرحت كثيراً ذهبت اليه.. أعطاني (كوتة) صغيرة.. ولما كثر ترددي عليه.. واجهني بأن ليس لي مجال معهم.. (وإذا عرف السبب.. بطل العجب)، وآخر زميل دراسة.. كان يعمل بأحد البنوك.. طلب مني وأنا في الاغتراب أن أحضر له (سواراً) غالي الثمن- يسميه السودانيون التصفية.. وهي عبارة عن كل ما يصرف للمعلم في الإجازة السنوية رواتب ثلاثة شهور- استحقاقات الامتحانات? راتب الشهر الأخير في العمل- أي متأخرات أخرى).. ترددت على الصائغ لمدة شهر واستدنت لأدفع له مقدماً.. وسددت (بتصفيتي) هذه الديون.. واستدنت مرة أخرى لمشتروات العطلة الصيفية.. وأحضرت له السوار وسلمني المبلغ فوراً.. عندما عدت.. علمت أنه صار مديراً لأحد المصانع.. أمّلتُ كثيراً عندما دخلت السوق.. ذهبت اليه عدة مرات.. وبرضه.. منحني (كوتة) وبعدها صار يتهرب مني... وأخيراً قابلني وقال لي.. أنا ساعدتك مرة.. وما بقدر أساعدك مرة أخرى.. بينما كان يوزع انتاج مصنعه (لآخرين).. ندمت على كل هذا، وهي قليل من تجاربي في السوق.. ولم استطع إقتحام السوق.. ولا العاملين فيه.. وأدركت أني ما خلقت إلا لأكون معلماً.. فأنا افتقر إلى الحظ.. والميول الفطرية للتجارة.. ذهبت إلى الأستاذ دهب عبد الجابر.. قصصت عليه قصتي.. قال (عاوز ترجع الوزارة) قلت نعم.. عينني على محافظة البحر الأحمر.. سعدت كثيراً هناك فكل ميسر لما خلق له.