«المال تلتو»..(بفتح التاء وكسر اللام)..أي .. اجعله ثلاثة اثلاث ..«تلت كاش وتلت بضاعة وتلث ارض».. تنسب هذه النصيحة الحكيمة الى الحاج عبد الله المليح الصادق .. والحاج عبد الله المليح سادتي.كان رجل اعمال من اعيان ام درمان.. وان كان يحلو له ولعشيرته أن يسموا انفسهم تجارا ..وما التاجر الا رجل اعمال.. علم بذلك ام لم يعلم .. رجل اعمال لم يدرس في هارفارد أو بيركلي او مدرسة لندن للاقتصاد..وما كان بحاجة لذلك..ولد في مطلع القرن العشرين في قرية صغيرة تقع على الضفة الغربية لنهر النيل بالقرب من مدينة شندي.. قرية كودحامد وبقية قرى السودان المنسية..لا يغشاها المسؤولون الا في مواسم الانتخابات أو عندما تكون لهم حاجة عند اهلها الفقراء.. قوم منافقون..يعدون و لا يوفون.. ولهم ذاكرة كذاكرة السمكة..في كل موسم يكررون نفس الوعود التي يعلمون سلفا أتهم لن يوفوا بها.. و لقد كفانا الراحل الطيب صالح مشقة الافاضة حول هذا الامر.. لم يرتاد الجاج عبد الله المليح مدرسة لأنه لم توجد بقريته مدرسة في الاصل .. ولم تنشا واحدة الا في العقد الرابع من ذلك القرن..ويحدثنا البعض اليوم عن التنمية المستدامة ومحاربة الفقر .. حتى افرغوا المفهومين من محتواهما..ناسين جهلا أو عمدا أن الانسان محورها ورأس رمحها..وأن التعليم والتدريب هما اساسها وامضى سلاح لمحاربة الفقر..ويكادوا يجمعون على بؤس وقصور نظامنا التعليمي.. يتحدثون عن التنمية المستدامة والانفاق على التعليم أقل من 1% من اجمالي الناتج القومي!!..بدلا من الرياضيات الحديثة و الفيزياء و الكيمياء والاحياء واللغات ادخلنا مناهج و مواد تنتج من صغارنا انصاف متعلمين.. استبدل الكتاب بالمذكرات.. ومعلمونا اللذين لم يتلق معظمهم تدريبا يشكون سؤ حالهم لطوب الارض.. وطوب الارض يا سادتي في ام درمان يشكو سؤ حاله لطوب السماء .. الراوي هو علي المك .. وهو عندنا من الثقاة .. والعالم حولنا يتحدث منذ عقود خلت عن العامل المعرفي«Knowledge Worker » العامل الذي تزداد كفاءته الانتاجية بتطور معرفته الفنية فينجز مهامه بجودة في أقل وقت ممكن و بأقل تكلفة ممكنة.. ان المعرفة الفنية تتراكم لدى الاشخاص بالتعليم و التدريب..واذا حدثتهم عن البحث العلمي يصمون اذانهم و تعمى بصائرهم .. اين نحن من كل ذلك؟؟.. بدأ الحاج عبد الله المليح تجارة متواضعة في المنسوجات القطنية في مدينة شندي.. حين كان الناس يأكلون مما يزرعون و يلبسون مما يصنعون..دون مزايدة .. لم تكن شندي على قدر طموحه فنزح جنوبا الى ام درمان .. ازدهرت تجارته فيها و أنشأ مصنعا صغيرا للنسيج .. وكان من اوائل مصانع النسيج.. وهذا تطور طبيعي .. فغالبية الصناعيين عندنا بداوا تجارا .. كانت نصيحته هي ديدنه .. «المال تلتو: تلت كاش وتلت بضاعة و تلت ارض» .. المحاسبون يعرفون «الكاش والبضاعة» بالاصول المتداولة « Current Assets » والارض عندهم هي الاصول الثابتة« Fixed Assets » وعند الاقتصاديين « الكاش» هو راس المال العامل « Working Capital » والارض هي احد عناصر الانتاج الاربعة و يقصدون بها الموارد الطبيعية.. «الكاش» أو راس المال العامل عنصر ضروري للنشاط اليومي للمنشات الافتصادية..لذلك نجد أن المستثمرين يلجأون للمؤسسات المالية للاقتراض لتشغيل وتطوير نشاطاتهم .. وللاقتراض لا بد من توفير ضمانات للمؤسسات المقرضة «Collaterals» والارض أو الاصول الثابتة هي الضمانة .. يصاب المرء بالدهشة وهو يرى اصرار البنك المركزي على الرهونات العقارية كضمان للتمويل رغما عن ما اثبتته التجربة من أن الاصول المرهونة للمصارف عند تسييلها لا تحقق اكثر من 50% من قيمتها المرهونة .. وحتى لا نصيب القاريء بالغثيان نمسك عن الحديث عن مصارفنا و نظامنا المصرفي.. الاصول المتداولة ضرورية و لازمة للنشاط اليومي للمنشات الاقتصادية .. و اقتناء الاصول الثابتة يتحقق باستخدام الارباح و الوفورات .. كما تنص القاعدة البسيظة(الايرادات ناقصا المصروفات تساوى الوفورات) والوفورات تساوي الاستثمار).. ان اتباع هذه النصيحة يكفى الكثير من اصحاب الاعمال شر سؤ استخدام مواردهم المالية و شر الخطأ الشائع الذي يرتكبونه كل يوم بخلط اموالهم الخاصة مع موارد منشاتهم و التي أدت بالكثيرين منهم الى غياهب(يبقى بالحبس لحين السداد)..وأردف الحاج عبد الله المليح نصيحته بأخرى .. لسنا متيقنين ان كان هو مصدرها أم عصامي اخر مثلهْ ..«مالا تودعو وودعو» .. أي .. المال الذي يعهد به لاخرين يصبح في عداد المفقود .. وان كانت هذه النصيحة يشوبها القصور و الخلل و قصر النظر الا أنه يبدو لنا أن المقصود هو أن ترك المال بلا رقابة يجعل منه مالا سائبا.. والجكمة الشعبية تقول..«المال السائب يعلم السرقة »..ولاشك لدينا في رجاحة هذه الحكمة .. ربما تكون النصيحة صحيحة حين صدرت الا أننا نجدها اليوم مع تطور علوم ادارة الاعمال قصيرة النظر.. ابتكر الانسان ما عرف بعلوم المراجعة او التدقيق .. والمراجع هو الرقيب على المال ان كان عاما أو خاصا .. والمراجعون قوم حذقون .. لا يكتفون بمراجعة البيانات المحاسبية بل يشمل عملهم التقييم المالي للمنشات وامورا عدة .. لا غنى عنهم و عن مشورتهم ونصيحتهم..ولو عرف الناس قدرهم و مقدرتهم لوضعوا قرب كل قرش مراجعا .. حتى لا تنتابهم هواجس وداع اموالهم .. يقسمون عملهم الى قسمين: مراجعة خارجية «External/Statutory Auditing » ومراجعة داخلية « Internal Auditing » وهم قادرون على ايقاف المختلس أو السارق قبل الشروع في فعلته .. النزاهة اعلى قيمهم.. وتصعقنا الدهشة ونحن نرى ديوان الضرائب يرفض شهادتهم وتقاريرهم..بل يذهب اكثر من ذلك اذ ابتدعوا لأنفسهم سلطة لتقدير ارباح المنشات الاقتصادية وان كانت خاسرة في السنة المعينة .. ويفرضون اتاوة للنظر في تظلمات الممولين .. ومن العبث أن نحدثهم عن التطور والانقلاب الذي حدث في مفهوم الربح .. فبروفسير بيتر دركر أحد أشهر علماء الادارة في العصر الحديث يرى أن ما تعارف عليه الناس بالربخ انما هو في واقع الامر تكلفة!! تكلفة استمرار المستثمر «The Entrepreneur » في المخاطرة بامواله و تقديم خدماته للمجتمع و القيام بدوره الاجتماعي..فهم بجانب ما يدفعونه من ضرائب و توفير السلع و البضائع و الخدمات يوفورن باستثماراتهم فرص عمل لأفراد المجتمع في ازمان تعجز فيها الحكومات عن ذلك و الكثيرين منهم بنفقون بغير من و لا اذى .. مر علينا زمان كنا يصنفونهم فبه كفصيل من فصائل تحالف قوى الشعب العامل.. وفي وقت الازمات هم جشعون..ومر زمان صنف فيه بعضهم بالرأسمنالية المرتبطة بالاستعمار و بعضهم غير مرتبط به.. ماذا كانت النتيجة؟؟.. اصبحت كل المتشات تمسك نوعين من دفاتر الحسابات .. احدهم يبين للممول واقع منشاته المالي والثاني لفحوصات الضرائب..وفتحوا بابا للتهرب من الضرائب .. و التهرب الضريبي عند الشعوب المتحضرة يرقى الى درجة الخيانة العظمى والعزل الاجتماعي وجريمة يعافب القانون مرتكبها..لم يكتفوا بما ظل يوفره العاملين بالخارج للبلاد من عملات صعبة بل فرضوا ضريبة على دخولهم .. ولقد جرى العرف في كل انحاء العالم أن من يعمل لمدة 11 شهرا في العام يعفى من ضريبة الدخل .. بل في بعض البلدان يردون له جزاءا من ضرائبه السابقة .. والضرائب لا تجبى الا بقانون .. و ضريبة دخل العاملين بالخارج استثناء فهي تحصل بامر وزاري منذ سبعينيات القرن الماضي.. ان الحديث عن الضرائب يثير الاشمئزار ..ما لنا والضرائب..يمكن درء الخوف من الاختلاس و السرقة بوسائل عدة .. فبوضع لوائح مالية محكمة تضبط التصرفات المالية وتعيين مراجع داخلي في المنشأة يمكن تقليل مخاطر الاختلاس و السرقات..كما أن شركات التأمين توقر غطاءا لخيانة الامانة يعرف بال « Fidelity Guarantee ».. هذه الهواجس من وداع المال قادت الكثيرين من اصحاب الاعمال .. وغالبية منشاتهم تصنف ضمن المنشات صغيرة .. الى أن يكونوا هم الملاك أو حملة الاسهم و هم المدراء و المرجع الاخير للتصرفات المالية.. تقود هذه النصيحة القاصرة الى توتر في العلاقة بين المدراء الاجراء واصحاب المنشات الاقتصادية نتيجة للتضارب في مصالحهما..قالمدير المحترف يسعى للقيام بمسئوليته في تحقيق أعلى الارباح للمنشأة و تطويرها ومصالح المالك الشخصية ورؤيته كثيرا ما تتعارض مع مسؤولية من يعهد اليه بادارة المنشأة..والسبب الرئيسي.. هو هاجس وداع المال .. والمراجع الداخلي لا يأتمر بأمر كبير الضباط التنفيذيين« Chief Executive Officer» كان مدبرا عاما أو عضوا منتدبا أو أيا كان المسمى..بل هو العين الساهرة للمالك على ماله.. ان حصافة مثل هؤلاء العصاميين في ادارة شئون منشاتهم المالية يعيد للاذهان السؤال القديم .. هل المدراء يولدون ام يصنعون؟؟.. رغم تباين الاراء و لكل منها حججا مقنعة .. يبقى امرا واحدا مهما..ان المعرفة الفنية انما تتراكم بالعلم و التجربة .. ولا يستوي اللذين يعرفون و اللذين لا يعرفون .. ويبقى سؤال مشروع لا بد من أن يطرح .. كم عصامي عبقري مجهول بيننا و لا نعلمه.. ü خبير إقتصادي