تحل بيننا هذه الأيام ذكرى الاستقلال المجيد.. الذي أشرق صباحه البهيج فجر الأول من يناير 1956م، بعد نضال مستميت من أجل الحرية والانعتاق.. بدأت منذ لحظات صمود الأبطال في كرري، والنخيلة، والكويب، والنيل الأبيض، والشكابة، وأم دبيكرات، إلى لحظات استشهاد نزيل أبي ركبه خليفة الصديق، خليفة المهدي سيدي عبد الله بني السيد محمد.. الذي أستشهد كما يموت الأبطال، وهو يفرش فروته ناصع الجبين، مرفوع الهامة في مواجهة الردى:- وأثبت في مستنقع الموت رجله، وقال لها من دون أخمصك القبر وشعاره قول الصحابي الجليل: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي ولا غرو في أن يتأسى بالصحابة، وقد أسماه الإمام على اسم غرة الصحابة، وحامل لوائهم حب رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق، فإنهم به من صاحب وأنعم به من سمى. ولم تهدأ جذوة الكفاح، فاستشهد حامل الراية- رحمه الله- ود شخيب في الكويب، وهو يذود تحت راية الأمير الشاب محمود ود أحمد. واستشهد الأمير الأمين ود منصور زعيم أهلنا وعشيرتنا في الدامر برصاص الانجليز، في مشهد اسطوري، ورجالنا وفرساننا ينامون ونساؤنا يزغردن للبطل الشهيد، ولا يزال أهلنا حتى اليوم على الراية والمنهاج.. ولا يزال شعارهم الدين منصور.. ولا يزال نهجهم وشعارهم أيضاً في شأن الله.. لا غيره.. يجودون بأرواحهم يذودون عن بلادهم وأوطانهم، لم يغيروا ولم يتغيروا.. ولم يتحركوا قيد أنملة. ثم كانت ثورة الداعية الشهيد الأنصاري المجاهد عبد القادر ودحبوبة.. عبد القادر محمد أمام في التقر، والرواكيب، وقرى وحواضر الحلاوين.. وثورته التي زانت وجه العقد الأول من القرن العشرين، قرن الكفاح ضد الاستعمار، وتواصلت المسيرة إلى أن قاد ركبها الربان الماهر- ربان سفينة الاستقلال بنهجه السلمي الهادف- والسياسي الذرب الحصيف الإمام عبد الرحمن المهدي (أبو الاستقلال)، وقائد الجبهة الاستقلالية، بشعاره الخالد (السودان للسودانيين)، وبكلمته التي صارت شعاراً للأمة حتى بلغت رحاب الأمة رحاب الحرية والاستقلال: (لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب، ديننا الإسلام.. ووطننا السودان).. فالتفت حوله مواكب الخريجين، وطوائف المثقفين، وغلاة المواطنين.. فكانت الجبهة الاستقلالية العريضة، وكان الكفاح عن قضية السودان وقضية الاستقلال في المحافل الدولية.. وكانت المفاوضات المضنية الشاقة.. وكانت التضحية بالغالي والنفيس.. وكان الصراع حول الحرية أو البقاء في ربقة التاج.. ثم كان الانتصار باجماع إرادة الأمة من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م، ثم إعلان الاستقلال وبيانه من القصر الجمهوري، ورفع العلم على سواري القصر في فجر يناير 1956م.. وهي اللحظات التي أجهش فيها الإمام بالبكاء، وما أغلى دموع الرجال.. فكان يوم الاستقلال.. وهو يوم يسطر في تاريخ هذا الرجل العظيم بأحرف من نور.