رحل عام 2011م بكل فواجعه ومواجعه وآلامه العسيرة وخيباته ووميض أفراح صغيرة طغت عليها الانكسارات والجراحات، ففي عام 2011م انشطرت بلانا كحبة فستق أو فول سوداني إلى نصفين، ونهضت دولة في الجنوب وأخرى في الشمال، وأحال مدير الإذاعة القومية معتصم فضل مئات الأغنيات والأناشيد والأشعار لمذبلة خزينا وعارنا، وجعل نشرها وإذاعتها على الناس ضرباً من التخلف الحضاري ولكن لا بأس من تردديها في حياء وخجل (من الأمس)!! انصرمت شهور وأيام وساعات ودقائق العام والحفر الموجع في القلوب، والأسى المقيم في النفوس، إن الوطن الذي من أجله (رطنا) بالدنقلاوية والمحسية والزغاوية والفوراوية والأشولية والنويرية، بالبرون والأما قد غيبته السياسة للأبد واستحال العيش المشترك بين (منقو) و(سيد أحمد)، وكتب الفراق بين (ألاك) و(كلتوم) وأقبل بعض من أبناء السودان يبتهجون بالانفصال في مشهد مخزٍ وآخرون التحفوا الأسى و(كتموا) مشاعر النفس والدموع في الأعفاج أي (المصارين).. ولم يجد كاتب وسياسي في قامة د. منصور توصيفاً دقيقاً لعجز القادرين على صناعة الأمل و(المتمين) لما كتبته أقلامهم في نيفاشا غير إدانة الجميع في الصفحة (25) و(26) من كتابه الذي أفرجت عنه سلطات النشر يوم الأربعاء الماضي فقط، والكتاب الذي يقطر حزناً و(يغوص) في أسباب انفصال السودان لدولتين تحت عنوان (انفصال جنوب السودان زلزال الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أيديلوجيات أم عقائد)، وفي الكتاب الذي يقع في خمس وعشرين صفحة بعد المائة.. كأن منصور اختار درباً لم يسر على جنباته من قبل قد أوهنته الكتب الطوال ونالت من عزمه سنوات الفترة الانتقالية، فكتب عن الأسباب والدواعي التي أدت لانشطار السودان فيما يلي الشريكين بالقول: (لو تم التحول الديمقراطي بالتطبيق الجاد لوثيقة الحقوق، ولو تحقق التحول الاقتصادي عبر إنفاذ الفيدرالية المالية التي فصلها بروتوكول اقتسام الثروة، ولو اكتملت المصالحة الوطنية على الوجه الذي جاء في الفقرة 1-7 من الاتفاقية، والمادة (21) من الدستور، والقرار الرئاسي رقم 341 لسنة 2007 الذي حدد النصف الأول من العام (2008) لإكمال إجراءاتها، ولم تم إدماج القوات المشتركة المدمجة عن طريق التدريب المشترك والتسليح المشترك والأنشطة الاجتماعية المشتركة كما نصت الاتفاقية، ولو تم تعيين عشرين بالمائة من الجنوبيين في الخدمة المدنية القومية خاصة في مراتبها العليا والوسيطة كما أبانت الاتفاقية ونص الدستور، ولو حرص مكيفو الرأي العام على التذكير بهذه الاستحقاقات بدلاً من تهجين من يدعو لها، أولا تظن معي أنه لو اكتملت كل هذه الاستحقاقات لجعلت الجنوبي أكثر تطلعاً للوحدة باعتبارها قيمة مضافة لتلك الوحدة، والشريك الرئيسي لم يأخذ كل تلك الاستحقاقات مآخذ جد والشريك الأصغر ذبلت إرادته وتقاعس عن أداء واجب ألزم نفسه به في الاتفاقية من تحول ديمقراطي ووحدة جاذبة، وما كان لتقاعس الشريك الأكبر من أداء واجب ألزم نفسه به في الاتفاقية أن يصبح مبرراً لذبول الإرادة عن الشريك الأصغر، لأن الشريك الأكبر ليس هو كل شمال السودان، فتحميل الشمال كله المسؤولية عن قصور ذلك الشريك، يشبه إلى حد كبير تخلي الأم الشرعية عن وليد بشرت به، ومع ذلك لم تكف عن الغضب عن رمي الوليد والمشيمة معاً في مرحاض السياسة». يا له من تشريح يقطر حزناً وألماً لرجل مهما اختلفت معه في التقدير السياسي، تحترم فيه بصيرته وسعة أفقه وجزالة تعبيره وغزارة علمه ولكن في السودان الوعي بالأشياء من أسباب الشقاء والتعاسة، وسعة الأفق والتحصيل الواسع أفقياً من العلوم والثقافات والآداب والفنون يفضي بصاحبه إما للجنون أو غياهب السجون.. كيف.. لا وقد أصبح حتى رثاء السودان القديم جرماً يعاقب صاحبه إما بالتعنيف أو التخوين، وكثرة حرف الواو في الفقرات السابقة من المقال تمثل استدلالاً على مقدار الأماني التي رحلت والأشواق (قبرة)!! ونصف الوطن قد اختار الوداع الصامت من غير ميعاد، والدكتور عز الدين هلالي في غربته يكتب عن وطن مجازي ووطن خرافي ويقول: ولما تسأل يا وطن عن حياتي وعن سنينها كيف قضيت أيامي قبلك وإية كان في الرحلة زادي.. بلقى كل دروب بلادي بتمشي جواي اعتيادي ونيلي سارح في عيونك رامي أمواجو الحنينة ومابي يتحرك بدونك ولما أنت بترحلي بتبقى كل الدنيا بعدك شايلة روحي وماشة غادي والسير بأحزان الوطن المنقسم لدولتين مثل رحلة إنسان جاء من أقاصي غرب السودان للجزيرة أرض المحنة سابقاً حينما كان المشروع يطعم أهله ويفيض بالخيرات على الوافدين بالأمل والعشم من (الجنقو) (والجنقجورا) و(الكتكو) كما جسد ذلك الرائع عبد العزيز بركة ساكت في روايته (الجنقو مسامير الأرض) المحظورة بلا أسباب مقنعة ومبررات موضوعية لكن (المقاولين) في المصنفات لديهم مقولة قديمة «نحن هنا لحماية الأخلاق والقيم والحكومة وتلبية رغبات ما يطلبه الحكوميون»!! رماد حرب الجبال انشطر الوطن بأمر أهله ورغبة الذين وقعوا على اتفاقية السلام ولكن اندلعت الحرب مرة أخرى في جبال النوبة والنيل الأزرق عطفاً على دارفور وتحققت أسوأ السيناريوهات.. انفصال الجنوب ونشوب الحرب التي (قضت) حتى الآن على آمال وتطلعات جيل بأكمله وسماء جبال النوبة ترعد بحروب طويلة تعبر في جوهرها عن العجز والفشل في تلبية احتياجات إنسان الدولة الشمالية الوليدة.. فقد اتكأت النخب على حائط المستعمر سنوات طويلة وحمّلته كل أسباب نزاع الجنوب، مع أن الفترة التي مكث فيها المستعمر ببلادنا أقل من حقبة الحكومات الوطنية من 1956 وحتى اليوم، ولم نسأل أنفسنا ماذا صنعنا (لاقتلاع) ما زرعه المستعمر، وهو تقاصر همتنا عن إقناع شعبنا بخطل سياسات الإنجليز والأتراك وصواب إدارتنا لشأن بلادنا، والآن بعد ذهاب الجنوب ونشوب الحرب الجديدة تفتقت عبقريتنا في الهروب من المشكل إلى الأمام، وأصبح الجنوب وحده المسؤول عن حرب الأنقسنا وجنوب كردفان لأننا نفسر كل حدث بمؤامرة، وكل عجز ننسبه لمتآمر حتى بات في نظر البعض كل العالم من طنجة إلى جاكرتا، ومن اتلانتا إلى سيبريا لا تشغله غير المؤامرة على السودان.. نصف عام انقضى على نشوب الحرب ولا تلوح في الأفق حلول ترتجى، ولا ضوء في آخر النفق يمكن انتظار انبعاث أشعته ليضيء دياجير نفقنا والإعلام ينقل ردود الأفعال والتبريرات ولا يقود رأياً مستنيراً يحمل الأطراف المتصارعة دونما سبب لوقف النزيف واستئصال العنف الذي بات يهدد استقرار نصف ما تبقى من السودان، فهل يشهد العام القادم بداية الوعي العام بأننا (مساقون) لحتفنا بلا وعي منا.. الراحلون هم!! انتهت في العام الذي رحل أسطورة رجل شغل وهزم الدنيا الجديدة ومات برصاص المؤامرة الدنيئة فاختفى أسامة بن لادن في بلاد الجهاد.. وانطفأ البريق الذي كان يضيء دروباً معتمة وصعدت روح كبيرة لبارئها.. ولكن الضمير الأمريكي لم ينم حتى اليوم مطمئناً وأكثر من عشر سنوات والولايات المتحدة بكل خبراتها ولصوصها وعيونها وأقمارها الصناعية تعجز عن الوصول لمقر يختبيء فيه بن لادن، ومليارات الدولارات تنفق على جيوش ولصوص وشركات مقاولات وعملاء.. حتى مات بن لادن ولم يبكِ عليه العالم، بل نظر إلى لحيته بإعجاب وتقدير وكانت فاجعة المسلمين في استشهاد بن لادن كبيرة.. وفي العالم العربي سقطت من صهوة (جواد) التاريخ قبعة العقيد الذي مشى بأحذيته على جماجم شعبه، وتملكه روح الغرور والشر وأنفق ثروات الشعب الليبي في النضال الخرافي والإدعاء الكذوب وزراعة الشر، فحصد الموت على أيدي شباب ليبيا بطريقة مقززة للنفس السوية.. قتل العقيد معمر القذافي على مقربة من مجرى مائي يحمل القاذورات وفضلات الإنسان ولم تذرف على القذافي دمعة واحدة.. تخلى عنه في لحظة ما، الحظ والأصدقاء والحلفاء والمأجورون، وتخلت عنه حتى الحسان اللاتي كنّ يتولين حراسته، ولم يبقَ إلى جوار القذافي إلا بضعة من رجال (أنسدت) في وجههم الدروب وعشيرته الأقربين، و(فرت) حتى ابنته عائشة من ليبيا حينما ضاقت الصحراء برمالها، والأرض بالماء، والسماء بالنجوم، سقط القذافي صريعاً، بينما مات طاغوت مصر وفرعونها حسني مبارك على سريره وبات محمولاً على آلة حدباء إلى المحاكم في أهزوجة لم تتفتق العبقرية المصرية بعد لتصويرها في نص درامي يأخذ بالألباب، وقد برعت مصر في (التماثيل) كما برع شعبها في الصمود ومواجهة الطاغوت الفرعوني حتى خر صريعاً، بينما سبق الاثنين مبارك والقذافي، دكتاتور تونس الذي كان عاقلاً وغادر الخضراء ملوحاً لشعبه بوعيه و(فهمه) المتأخر للدرس، وأن تفهم متأخراً خير من لا تفهم حتى تداهمك الخطوب!! ü القيثارة التي صمتت قيثارة السودان زيدان إبراهيم القادم من أعماق حاراتنا وبيوتنا الشعبية ومن قهوات صيفنا الحار وشتائنا الدافيء.. غاب زيدان إبراهيم في عام 2011م وبقيّ صوت زرياب السوداني يدغدغ المشاعر في الأمسيات، وتكاثر الرحيل في العام المنصرم من زيدان (في الليلة ديك)، إلى الطاهر حسيب أدروب شرق السودان وموسيقار الكرة السودانية، إلى الصحافي (عمرابي) وقد تكالب علينا الموت من موت مشروعاتنا الكبيرة إلى ذوات فانية. وفي العام الجديد.. الأمل والمرتجى في أن تكتب لبلادنا العافية من أمراض الحروب، ويكف عنها شر الجوع، ويرزق أهلها من الثمرات والحكام الصالحين.. آمين.