لست وحدي من تأخر بلا عذر ، والأستاذ الكبير محمود أبو العزائم فيما يرويه من ذكرياته مع وزراء زمان أنّه شعر بالحرج لتأخره عن تهنئة الأستاذ يحيى الفضلي رحمهما الله وقد عُيّن وزيراً فأسرع ليلحق به قبل أن يغادر الى القصر لأداء القسم . وجده على الباب يمسك به طفله فشرع الصحفي الكبير في تدبيج أعذاره لكن الوزير عاجله متسامحاً ومعاقباً بقوله (يا محمود اسكت هذا الولد، إنه يريد طرادة). هذا موقف سوداني ، لا أتحدّث عن موقف إنساني أو مالي لوزير يوم تعيينه وإنما موقف كلي تجاه الحياة ومناصبها ومستلزماتها من التجرد والشفافية ونكران الذات وترك بصمات للذكرى والتاريخ . وهذا ما عنّ لي أن أقوله عوضاً عن تهنئة متأخرة لوزير الثقافة الجديد الذي نريده يضرب المثل كسائر الرموز الوطنية التي تركت بصماتها . الوزير جديد نعم ولكن الوزارة ليست بجديدة ، والوزير نفسه ظل وزيرا بغير وزارة فإنجازاته كمدير عام للثقافة وأروقتها كانت هي جل كسب الوزارة الملموس للناس والمتصل بهموم الثقافة والعلاقة مع الجماعات الإبداعية . فهل سيأتي الوزير الجديد بجديد برغم ما ألفناه عنه من اجتهادات ومبادرات وحضور في المحافل يحسد عليه ؟.إنه وزير معروف ومجرب ومتاح بين الناس لا يخفى عليهم منه شيء يجتهدون لاكتشافه أو المراهنة عليه ، ولا بد من مفاجآت يأتي بها على أعين الناس لينبهروا ويترقبوا ويراهنوا في مصير الشأن الثقافي ما شاء لهم . مشروعات ثقافية مبهرة ، هذا هو المنتظر فكيف يتسنى ذلك ؟ . هناك تجارب عالمية وقطرية من الثورة الثقافية ودع ألف زهرة تتفتح في الصين إلى مبادرات مؤتمر الخريجين وجماعة أبادماك والغابة والصحراء ومدرسة الواحد والمهرجانات الثقافية . أحسب أن البداية من هنا ، كيف خطفت هذه التجارب الثقافية الأضواء وبقيت في الذاكرة ؟ . تجاربنا السودانية ليس وراءها ميزانيات مخصصة للثقافة والدكتور إسماعيل الحاج موسى كوزير اعتمد على موازنات الإذاعة والتلفزيون لإنجاح المهرجانات ، وحين جربها من جاءوا بعده هزمت مبادراتهم ميزانية الوزارة ليبقى منصب الوزير وكأنه تشريفي يفتتح المعارض ويلبي دعوات الأسفار. يبدو أن المهم في إدارة الشأن الثقافي هو المبادرات ، ولن نجد أمثلة كثيرة لدول كبرى تنصب وزيراً للثقافة مع اهتمامها بالثقافة ومصر ألغتها ذات يوم فتندر بعض مثقفيها(رب ثقافة بغير وزارة أفضل من وزارة بلا ثقافة). ماذا ننتظر بمقدم الوزير السموأل ؟ وزارة أو .. لا وزارة، وهذا رهين ببرنامجه وطريقته ومن هم معاونوه ومستشاروه وداعموه بالمال والموارد البشرية المواكبة للعصر والمنفعلة بالثوابت وبهوية البلاد التى تتعرض الآن لأقسى الامتحانات الثقافية . و( الطريقة) التى سيتبعها السموأل ستكون هي الحاسمة ، فهو ملاصق للبيئة الثقافية حتى ألفه الناس كشخصية مدنية تعتمد على علاقاتها بينما قوام شخصية الوزيرالسلطة واللوائح والقوانين وإصدار القرارات والوضع الكاريزمي للوزير. لا أتوقع أن تقلد شخصية لوزير مألوف. الخيار الوحيد الأنجع ليتميز ويصمد في مواجهة معضلات الثقافة الموروثة هو التمويل . ضعف التمويل كان وراء النقد الموجه للوزارة. والتمويل الكافي المستحق لأولوية الثقافة إستراتيجيا كفيل بإحداث حراك ذي أثر على كامل أوجه الحياة . الأولوية لتجفيف مواضع البؤس ، ولانصاف من أعطوا ابداعا حقيقياً ، ولضخ الحياة في مشاريع الأحياء الثقافي . ابحث أولا عن المبدعين المغبونين الذين أعطوا عبر وسائط الإعلام والصحافة والنشر ولم يستبقوا شيئاً . شجع الكتاب ، أصدر كتاباً كل شهر وأقم حوله المنتديات ، ادعم البرامج الثقافية في الاذاعة والتلفزيون والأندية الثقافية بعد أن تكرم حداتها صناع نسيج الوحدة وحماة التنوع الثقافي ، وأبسط رعايتك للملفات الثقافية بالصحف ، ابحث عن الموهوبين ، حرض على توطين تكنولوجيا المعلومات . المال يساعدك على ذلك كله . من هنا أبدأ قدم شروطك لصاحب القرار وبشّره بالنتائج . ستجد الناس معك فقط عليك أن تبدأ بالتمويل ، لا تقبل بغير أنموذج صندوق دعم الوحدة والأفضل أن تجعلها( مفوضية للثقافة) على طراز مفوضية الانتخابات التى نهضت بجهد خرافي ولم نسمعها يوماً تشكو من ضيق ذات اليد . أيهما أكثر حجة الإدلاء بالرأي أم تشكيله ؟ . الإدلاء بالرأي يدخل الآن المنعطف الأخطر في تاريخ البلاد عبر استفتاء ثقافي أكثر منه سياسي . ولك من الحجج الكثير فأنت مسؤول عن الإبداع وثقافة السلام وتأمين وحدة التراب وصون الهوية وإشاعة ثقافة التقنية والمعلوماتية ومن قبل المشروع الثقافي للبلاد . أو ليست هذه حجج كافية لتمويل الثقافة بقدر دورها في الحياة حرباً وسلاماً ورفاهية ؟ وإن شئت قفزة فضائية فلديكم مشروع لقناة ثقافية أعده التلفزيون مع معنيين كطلب وزير سابق أشاد به وانتهى الأمر . وقبل هذا وذاك كما يقول د . هاشم الجاز لابد من إعفائك من الوقوف أمام أبواب وزارة المالية أعطوك أو منعوك أو أحالوك لموظف رده جاهز( وأين هي الثقافة ؟) أنت أدرى بحكاية التمويل وما تجربتك بهيئة الإذاعة والتلفزيون بولاية الخرطوم ببعيدة . ونحن على كل نريدك وزيراً للثقافة غير مسبوق ، تضرب المثل بمنطق ثقافة أهلك في مواجهة التحدي( يا غرق يا جيت حازمه) حتى لا تنهار فكرة وزارة للثقافة في بلاد السودان نهائياً. أرى أن تبدأ بمبادرات منها أن تعيد الكرة إلى الجمع الثقافي الذي بشره الرئيس بوزارة للثقافة ، وأنت رجل منابر وأدرى بذرائع من قالوا لنبي الله موسى عليه السلام (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) المائدة . دعهم يتنادون(بلا فرز) ، أشكرهم وقل لهم ها قد أوفى الرئيس واتخذ قراره فماذا أنتم فاعلون بوزارتكم؟.