ومنصور خالد أميز من استعاض عن طلاقة الخطاب المنبري بدقة الكتابة وكثافتها في الفكر والتاريخ والسياسة السودانية يعترف بإنطلاقه من ذاتية المواقف إلى موضوعية المناهج والتحليل .. منصور صاحب الذائقة الشعرية المتفردة يدرك ما قاله درويش في إحدى أبياته المترعة جمالاً وحكمة : ( من يحكي حكايته يرث أرض المكان ويملك المعنى تماما ) ولأنه يحمل في نفسه داء الإصطراع المزمن بين سلطة الخيال وخيال السلطة شأنه شأن المتنبيء معشوقه الأزلي الذي لم يكتف بقوله الصارخ ( الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم / أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم ) بيد أنه طفق يتسول الملوك المماليك طالباً منهم ولاية عارضة رغم امتلاكه لولاية أعمق أثراً ونفوذاً وأطول عمراً وهذا ما يتضح جلياً في عزاء الفيتوري له من وراء السنون والقرون (هذا زمانك لا هذا زمانهم فأنت معنى وجود ليس ينحصر) .. منصور الذي يمثل حالة ولا يمثل مجرد شخص من شخوص التراجيديا العبثية على مسرح السياسة السودانية كما تشير إلى ذلك فطنة الوزير عمر الحاج موسى حين قال في خطاب ممعن في الفصاحة والخبث ( أتيناك عرباً وزنجاً وبجاً ونوبة ... ومنصور خالد) وكأن منصور مفردة متفردة آثرت أن تؤثر في نسيجها عوض أن تتأثر به .. منصور وهو مفعم بكل هذه الظلال يتسآءل في آخر مخطوطاته بلغة عالية الترميز هل من خيط فضي تحت الغمامة ؟ وليس من صدفة أن يرد هذا السؤال في خواتيم آخر فصل من فصول آخر مؤلفاته الذي أطلق عليه بعمق رمزي فريد تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد لأنه كان يدرك بحدسه قبل حسه أن رياح الانفصال الهوجاء سوف تعصف بخيمة الوحدة والاستقرار .. وأن تشاطر النخبة الحاكمة في الشمال والجنوب وترخصهم الشديد في التعامل مع أشراط الاتفاقية وعدم استيفائهم للعهود الموثقة ويأس الجنوبيين مما أسماه مواصلة معركة التحول الديموقراطي التي تدار في الخرطوم لا في جوبا وأويل وبانتيو بالإضافة إلى إغفال الحقيقة الجوهرية المتصلة بأطراف الاتفاقية وعدم تجاوزهم لدائرة العداء كونهم يقفون على أقصى تفاصيل النقيض من بعضهما البعض في ظل العمل الدؤوب للعناصر الانفصالية جنوباً وشمالاً وعلو صوتها وصيتها في مناخ يتجاهل مغزى أن يرتحل الجنوب جنوباً(بكل ثرواته النفطية وعيونه المدرارة وأرضه الخوارة ومراعيه الخضراء) كل ذلك وغيره كثير من المعطيات التي رد إليها منصور دواعي أضخم حدث رمزي يصيب بنية الفكر والسياسة والتاريخ في السودان مصاباً بالغاً ومزلزلاً.. ويبقى أن يقال أن منصور المتحيز لمشروع السودان الجديد الذي أسهم في صوغه وتسويقه وتسويغه ببراعة تشهد عليها الأسفار الضخام التي يحرص على قراءتها أعداؤه قبل أصدقائه قد بالغ عن عمد في ربط نتيجة الاستفتاء بحصيلة منتوج ست سنوات من العمل والعجز والوفاء والتسويف والانجاز والإخفاق فماهو معلوم للناس بالضرورة أن ثمة فواصل ثقافية ورمزية عميقة بين شعبي الجنوب والشمال لم تفلح المعالجات العاجلة على تجسير هوتها . لكن بعد مرور عام على الانفصال نحتاج بشدة لإعادة الروح التي أشرفت على إنجاز أضخم عمل وطني تداعى له طرفا النزاع في نيفاشا حيث وصفت هيلدا جونسون في كتابها إندلاع السلام قصتي مع مفاوضات أطول حروب إفريقيا أن أهم ملمح وأوضح سمة للمفاوضات تمثلت في كونها شخصية وشديدة الخصوصية، نحتاج إلى ذات الروح في تنفيذ ما هو عالق وتصميم برامج شراكة إقتصادية عابرة لحدود لم ترسم بعد فما من لغة تدحض وهوم العداء وتوجساته مثلما تفعل لغة المصالح المتسقة مع نواظم القيم ، وعلينا قبل كل ذلك أن نقضي على بقايا الصورة المتخيلة للجنوب التي شكلتها عوامل كثيرة وأن نتعامل معه كدولة كاملة السيادة، كما علينا أن نهرب قدر الإستطاعة من نماذج مماثلة ظلت تدور في فلك العداء المتبادل والتآمر المتبادل والإيذاء المتبادل كما في حالة العلاقة بين باكستان والهند وإثيوبيا وإريتريا.. علينا أن نعلم جيداً أن معادلة العلاقة بيننا قائمة على أساس أن الآخر هو جزء من الذات ، أو لم يصدح الفنان المقتول غيلة خوجلي عثمان ذات يوم بأغنية شجية تداعت معها الأصداء طرباً(ما بنختلف لو حتى حق الريدة هان أنا لي عليك حق الولف) بيد أن أدنى درجات الإيلاف هي ننزه جوارنا عن الجور ونحصنه بالعدل .. وأن نسمح بالإسماح سفيراً يؤسس لحوار عميق ومنتج ، حوار يطلق السؤال بدل أن يطلق الرصاص ويرسل الإجابة بدل أن يرسل القذائف، حينها سيبدو وعد المطر أدل من إرتسام خيط فضي على غمامة عابرة..