لقد ظلت العاصمة «الخرطوم» تتميز بميزات خاصة في كل فترة من فترات الزمن، ورغم أنها كانت محدودة في عددية سكانها وفي رقعتها الجغرافية، إلا أن حياة التمدن والتحضر كانت ظاهرة عليها، وقد كنا ونحن طلاباً بجامعة الخرطوم نسكن بداخليات «البركس» التي تحولت الآن إلى داخليات للطالبات تتبع للصندوق القومي لرعاية الطلاب تحت مسمى «مجمع الزهراء»، وقد كانت تجاورنا من الناحية الشمالية سينما «النيل الأزرق» والتي تنبعث منها أصوات الأفلام الأجنبية المختارة، وقد كانت سينما النيل الأزرق على خلاف بقية السينمات بالعاصمة وكانت «غير» بلغة اليوم، وقد كان يؤمها مثقفو المدينة والطلاب القادرين، حيث كانت قيمة تذاكرها مرتفعة أما طلاب الأقاليم فقد كانوا يتوجهون إلى سينما كلزيوم الواقعة على شارع القصر وقد توقفت عن العمل في وقت ليس ببعيد وقد كانت السينمات الشهيرة آنذاك هي سينما حلفايا بالخرطوم بحري، والوطنية الخرطوم، وقد كان الطلاب الذين يؤمون هذه السينمات يعودون في وقت متأخر للداخليات عند منتصف الليل، وقد كانت شوارع الخرطوم آمنة أما الذين يذهبون لسينما حلفايا بالخرطوم بحري فيعودون عبر كبري النيل الأزرق في متعة متناهية، وقد كان العائدون من سينمات وسط الخرطوم يعودون عبر شارع البلدية حتى داخليات البركس، وغالبا ما يلتقي بهم في طريق العودة الذين يذهبون للعشاء بالفول عند «أبوالعباس والعشرة الكرام» وقد كان محله في المنطقة الواقعة جنوب مستشفى الخرطوم وكان فوله مضرب الأمثال يصلحه بأشياء موضوعة في عشر برطمانيات لاندري ما هي لكنها تخرج في النهاية فولاً رائعاً يستحق الهجرة له من داخليات البركس حتى موقعه ثم العودة راجلين، بالمناسبة كنا عندما نذهب لتناول فول أبو العباس نعتبر ذلك تغييراً من وجبات الجامعة التي مللناها من كثرة ما تحويه من لحوم بيضاء وحمراء وبيض وسلطات وفاكهة مختلفة أنواعها لامقطوعة ولا ممنوعة وقد فوجئت في هذا الأسبوع عندما دعاني أحد الأصدقاء لأتناول معه وجبة فول دسمة بوجود نفس اللافتة السابقة مكتوب عليها «أبو العباس والعشرة الكرام» بالمنطقة الصناعية شارع الخور طرف شارع الحرية، وقد كانت المفاجأة الكبرى عندما وجدت أبوالعباس نفسه يجلس على كرسي جوار المطعم لكنه لايمارس أي عمل وقد بلغ به الكبر عتيا، إنها الدنيا ذلك الشاب الذي يقدم لنا ذلك الفول بحيوية قبل أكثر من ثلاثين عاما يجلس الآن متقاعدا يتابع عمل محله بصمت شديد وفتور ظاهر وقد علمت بأنه قد نقل للعلاج بالخارج تصحبه السلامة مع دعواتنا الصالحات له بالصحة والعافية، أما الدعوة الأخرى لكل طلاب الجامعة آنذاك إن أرادوا أن يعيدوا ذكريات تلك اليام أن يتجهوا لمحلات أبو العباس في موقعها الجديد ورغم أن الأسعار قد تغيرت إلا أن طعم الفول لم يتغير. ولمحة أخرى من ذكريات تلك الأيام المسجلة في ذاكرة الخرطوم فان طلاب الجامعة أو مجموعات كبيرة منهم كانوا يسهرون حتى الصباح في المناسبات والحفلات ذلك عندما لم تحدد مواعيدها بالساعة الحادية عشر، وقد حكى لي بعضهم أنهم متى ما يعودون يجدون التاكسي جاهزا في موقعه عند سوق الخضار وهو المكان الذي قامت عليه واحة الخرطوم، وقد كان التاكسي يعمل بنظام «الطرحة» حتى الساعات الأولى من الصباح، والطرحة تعني التعامل بالنفر وهو خلاف الطلب ويستمر تواجد التاكسي حتى الساعات الأولى من الصباح عندما يأتي أصحاب الأسماك والخضار ولا يكسر هدوء ليل الخرطوم إلا نداءات «بحري نفر.. بحري نفر» إن هذا المكان الذي شُيدت فيه واحة الخرطوم بعد أن كان سوقا للخضار أُقيمت فيه المكتبة الخضراء وقد أخذت صفة المكتبة العامة وكان يؤمها الطلاب والباحثين ومن يتواعدون للّقاء هناك، وبجانبها كان ميدان الأممالمتحدة والذي شهد الكثير من التظاهرات في مختلف العهود لموقعه المتميز وتوسطه لمناطق الأسواق وقد ذاب هو الآخر في واحة الخرطوم الآن. إن الحديث عن ذاكرة الخرطوم وذكرياتها يطول ولكني ولمصلحة شباب اليوم الذي لم يشهد الكثير مما نتحدث عنه فسوف أتناول في بعض الأحيان شيئاً مما هو عالق بالذاكرة عن الحياة والمواقع في الخرطوم والتي مستها سنة التطور فأصبحت غير معلومة لأجيال اليوم ولنعيدهم بخيالهم على الأقل لذكريات تلك الأيام. كنت قد وعدتكم بمواصلة الكتابة عن المذكرة التصحيحة التي قدمتها قيادات من الحركة الإسلامية للمؤتمر الوطني، وقد قمت بإعادة جزء من مقال سابق حولها حتى أواصل الكتابة فيها ولكن هناك خبر قد غير مسار كتابتي فبينما كنت أتابع الأخبار في الفضائيات، وجدت خبراً أعتقد أنه مهم جداً ليس لنا في السودان ولكن مهم في كل العالم وهي اتهامات وجهتها منظمة هيومن رايز للولايات المتحدةالأمريكية بأنها تنتهك حقوق الإنسان وأنها لم تغلق معتقل غوانتنامو حتى الآن، بالاضافة إلى أنها تعتزم إجازة مشروع قانون لاعتقال غير محدد بزمن، بالاضافة إلى أنها لم تحاكم من تجاوز وعَذبوا أثناء ولاية بوش.. وهنا لابد أن نتوقف قليلاً فغوانتنامو معتقل خطير ويضم معتقلين من كل أنحاء العالم منهم من أعتقلوا من غير ذنب أو جرم وكل جرمهم نسبة لإنتمائهم للإسلاميين، ومنهم من لديهم نشاط إسلامي ومنهم من تتخوف منهم أمريكا فهي بعد أحداث (11) سبتمبر خرجت للبحث عن الإرهاب ولم تعد حتى الآن. أما الانتقاد الثاني الذي قدمته هيومن رايز هو القانون الجديد الذي تشرعه أمريكا لتعطي نفسها حق الإعتقال بدون زمن محدد.. وأن هناك من يدافعون عن أمريكا أو يظنون أنها بلد فاضلة ليس فيها انتهاكات فأي إنتهاكات أكثر من أن يحتفل شخص بالسنين في غوانتنامو وبدون أن تعطي الفرصة لأحد لكي يسأل عما يحدث هناك، أمر غريب جداً أن تجيز بلد مثل أمريكا ترتدي قناع الواعظين وتدافع عن الشعوب وهي تضطهد شعبها بل وتعتقل «الناس» بدون وجه حق وتقوم بتعذيبهم بطرق بشعة جداً لايمكن وصفها فما حكاها العائدون من هناك يجعل الشعوب الأخرى تؤمن بأن خلاصها ليس في يد أمريكا التي تنتهك حقوق الإنسان بدون قانون، والآن هي تريد أن تشرع قانوناً يسمح لها بالاعتقال بدون زمن.. وما يؤدي للدهشة أن أمريكا ومنظماتها تصدر البيانات والأخبار وتقف وراء الشعوب المظلومة لمصلحتها الشخصية وليس لمصلحة الشعوب المغلوبة على أمرها. سادتي.. أمريكا لا تخشى شيئاً وهي تفعل ما تحرمه على الناس فما رأيكم!!.