في الأسبوع الماضي تم بمرسوم جمهوري، تكوين المفوضية الوطنية لحقوق الإنسان، من رئيس ونائب للرئيس وثلاثة عشر عضواً، أدوا القسم أمام السيد رئيس الجمهورية إيذاناً بالشروع في مباشرة مهامهم وتولي الأعباء الجسام المناطة بهم. تعد المفوضية الوطنية أو القومية لحقوق الإنسان، إحدى الآليات الرقابية المهمة التي نص عليها دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005م، تقنيناً لبند مقابل ورد في اتفاقية السلام الشامل، جنباً إلى جنب مع منظومة من المفوضيات المفصلية نص عليها في ذات الدستور، مثل المفوضية القومية للانتخابات، والمفوضية القومية للمراجعة الدستورية، والمفوضية القومية للخدمة القضائية، والمفوضية القومية للخدمة المدنية، والمفوضية الخاصة لحقوق غير المسلمين وغيرها. ولقد جاء إنشاء المفوضية وفاء لنص المادة 142 من الدستور، التي منحت السيد الرئيس صلاحية تكوين هذه الهيئة من أشخاص مشهود لهم بالاستقلالية والكفاءة، وعدم الانتماء الحزبي، والتجرد، على أن يراعى في الاختيار إتساع التمثيل. ولو نظرنا للقائمة التي وردت في المرسوم الجمهوري، فسوف نلاحظ وبصورة واضحة، الجهد الكبير الذي بذلته مؤسسة الرئاسة في عملية الاختيار، ومراعاة التمثيل الواسع والمتكافيء إلى حد كبير بين المناطق الجغرافية والتخصصات المهنية، والفئات الاجتماعية، والخلفيات الثقافية والدينية، فضلاً عن التعددية السياسية. ورغم أن تشكيل المفوضية جاء متأخراً بعض الشيء عن رصيفاتها، إلا أن الحاجة الملحة إليها، لا تقل الآن إطلاقاً عن أي وقت مضى، وكما جاء في المثل العربي السائر (لئن تأتي متأخراً، خير من أن لا تأتي أبداً). ذلك لأن قضايا حقوق الإنسان ظلت في العقود الأخيرة، تشهد اهتماماً دولياً ليس له نظير، وتم ربطها عملياً بقضية الأمن والسلم الدولي، بعد أن كان الأمر لا يعدو إشارة عابرة في ميثاق الأممالمتحدة عند الحديث عن أهداف إنشاء المنظمة عام 1945م بعيد انتهاء الحرب الكونية الثانية، بل إن منظومة الحقوق الأساسية خرجت من دائرة الشأن القطري إلى الآفاق العالمية، ومن إطار القانون الدستوري، إلى اختصاص القانون الدولي والإنساني الدولي، وتهاوت أمام سيلها المندفع نظريات السيادة الوطنية، ومباديء عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول، ليس هذا فحسب، بل إن حماية هذه الحقوق أضحت مبرراً وغطاءً للتدخل الأممي، وفرض العقوبات واستخدام القوة المسلحة في حالات كثيرة. وكغيرها من التدابير المثالية والقيم الإنسانية الرفيعة، تم تحريف مسألة حقوق الإنسان لتكون مطية للمآرب السياسية وإعمالاً للمعايير المزدوجة. فمن جهة- كعين الرضا الكليلة- يغض النظر عن الوحشية والبربرية الإسرائيلية في فلسطين، والهمجية الأمريكية في العراق وأفغانستان، ومن جهة أخرى تجري عملية الاغتيال المعنوي والتشهير بالدول المغضوب عليها، أو المتمردة على الهيمنة الأمريكية، ويسلط عليها سيف العقوبات وسيل الإدانات بدعوى انتهاك حقوق الإنسان، أو رعاية الإرهاب، ويصدق على هذا الاختطاف للمثل النبيلة قول الشاعر العربي أبو الطيب المتنبيء: (كلما أنبت الزمان قناة... ركّب المرء في القناة سناناً). في مثل هذه الأجواء، وفي ظل هذه الظروف، يجيء تكوين المفوضية الوطنية، لسد ثغرة كبيرة في الآليات القطرية لحماية وتعزيز حقوق الإنسان في السودان. ذلك لأن لهذه المؤسسات بفضل قوميتها وحيدتها واستقلاليتها، وزناً كبيراً، وثقلاً عظيماً في المجتمع الدولي، وفي أوساط الهيئات الأممية المعنية بقضايا حقوق الإنسان، وفي مقدمتها مجلس حقوق الإنسان بالعاصمة السويسرية جنيف، والذي يعد الآن أهم وأخطر منبر عالمي لمناقشة أوضاع حقوق الإنسان في العالم، حيث ينعقد مرتين في كل عام، وتؤمه وفود من عشرات الدول المنضوية تحت لواء الأممالمتحدة، وفيه تستعرض منظمات حقوق الإنسان عضلاتها، وتنشر تقاريرها التي تتضمن بالحق والباطل، نقداً قاسياً وهجوماً شرساً على حكومات الدول الأعضاء، مستغلة تقديم هذه الدول لتقاريرها الدورية حول جهودها لتحسين حقوق الإنسان في بلادها. ورغم أن حكومات الدول الأعضاء بما فيها السودان، دأبت على العناية بحضور هذه الاجتماعات، والتي تستمر أسابيع عديدة، بوفود رفيعة المستوى، درجت العادة في السودان على ترؤس وزير العدل لها، وفي معيته قانونيون من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وممثلون للمجتمع المدني، ومناديب عن الوزارات والجهات المعنية بحقوق الإنسان، كوزارات الخارجية، والداخلية، والشؤون الإنسانية، والرعاية الاجتماعية، وجهاز الأمن الوطني والمخابرات، ونقابة المحامين، والاتحادات النسوية، ورغم كل هذا التمثيل الواسع في الوفد الرسمي، إلا أن المجتمع الدولي، بقي أكثر حرصاً على الاستماع إلى تقارير وملاحظات منظمات حقوق الإنسان الدولية في ما يتعلق بالشأن السوداني، علاوة على تقارير الخبراء والمقرريين المكلفين بتتبع الأوضاع الإنسانية في السودان. وتأكيداً لما أشرنا إليه من قبل، من استغلال سياسي كقضايا حقوق الإنسان، ظل السودان ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي هدفاً دائماً لسهام منظمات عالمية مثل العفو الدولية، وآفريكا ووطش وغيرها. كان الهدف الإستراتيجي في كل الأحوال ثابتاً، وهو النظام القائم في السودان، لكن الموضوعات كانت تختلف وتتنوع، ففي البداية كان التركيز على الحرية الدينية، والحدود الشرعية ثم انتقل لمسألة الرق، واختطاف الأطفال والنساء، ثم تحول للأحوال الإنسانية فيما يسمى بمناطق الهامش، وإلى دعم الإرهاب، والجرائم ضد الإنسانية. قيام المفوضية الوطنية لحقوق الإنسان يمكن أن يشكل بلا شك تطوراً إيجابياً في مجال الحريات الأساسية، إذ في مقدور هذا الكيان الجديد إذا وفرت له المعينات، وملِّك المعلومات، وحظيّ بالتعاون والتجاوب من الأجهزة الرسمية، وأعير أذناً صاغية، أن يحدث طفرة نوعية على صعيد حماية وتعزيز حقوق الإنسان في البلاد. ولو نظرنا إلى المهام المناطة بالمفوضية الوليدة، لأدركنا كم هي عديدة ومتشعبة وحساسة، تحتاج إلى جهد أسطوري، وحراك نشط، وإرادة قوية، وتجرد وشجاعة أدبية، ونظرة موضوعية، والتزام بالمهنية والحرفية. كل من قانون المفوضية لسنة 2004م (الملغى) وقانون 2009م الحالي، فصل وأسهب في اختصاصات المفوضية، والتي تشمل رفع الوعي وتعميق ثقافة حقوق الإنسان، وإعداد الدراسات والبحوث، وتقديم النصح للحكومة، والتأكد من مواءمة التشريعات والممارسات الوطنية مع المعايير الدولية، والتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية، والمساهمة في إعداد التقارير الوطنية المطلوبة بموجب الاتفاقيات الدولية التي انضم لها السودان، والتحقيق في دعاوى الانتهاكات، وتشجيع الدولة على الانضمام للمعاهدات الدولية، وما إلى ذلك من مهام واختصاصات وصلاحيات، نعرض إليها في الحلقات القادمة بشيء من التفصيل، والله من وراء القصد.