في الولاياتالمتحدةالأمريكية يظهر الرئيس الأمريكي أسبوعياً في خطاب يعرف بحالة الاتحاد، ولدينا في ما يقال عليه العالم الثالث قليلاً ما يظهر الرؤساء في مواجهة مع الأجهزة الإعلامية، ولاسيما إذا ما كان هناك ما يحرج ويخدش الوضع السياسي أو يحرجه، إلا أن الرئيس البشير ظهر مساء الجمعة على شاشة تلفزيون النيل الأزرق، ونقلته بالتضامن قناتا تلفزيون السودان والشروق والإذاعة القومية، لتتسع المساحة.. فما يطرق عليه ويثار كثير بعد فشل جولة المفاوضات بين حكومة السودان وحكومة جنوب السودان، وارتفاع الصوت بالحديث عن الوضع الاقتصادي المأزوم والفساد، ومذكرات النصح والتصحيح، والمناصير والحكومة المترهلة، وأبواب الصرف التي انفتحت بزيادة عدد الولايات والدستوريين، وغير ذلك من هموم معتادة، زادها الوضع الحالي هماً واهتماماً كالأمن القومي والدفاع الوطني. على أن ذلك كله لم يمنع الرئيس البشير من أن يعتمر عمامته وجلبابه وصديريته ويحمل عصاه ليواجه الأسئلة الصعبة والمتوقعة في قناة النيل الأزرق وغيرها فهو (ما شاء الله) وأمسك الخشب صاحب حضور وإلمام بسائر الملفات ولا تنقصه الصراحة في أن يضع النقط على الحروف، فيحدث مواطنيه ومنتخبيه وغيرهم بكل مايلزم وما لايلزم، بيد أن الحقيقة تعلو ولايعلى عليها. الرئيس والعلاقة مع دولة الجنوب الوليدة حيوية ولابد منها للطرفين قال إن(الجو والمناخ الآن أقرب للحرب منه للسلام..!) وهذا برأينا ورأي الكثيرين في الداخل والخارج صحيح لأن المفاوضات في أديس- رغم الوساطة والاجتماعات واللقاءات التي جرت على هامش القمتين الافريقيتين هناك- انتهت إلا أن الحركة: ستغلق آبار النفط التي لديها وتزيد على ذلك اغلاق الحدود بين البلدين أيضاً,,! وذلك رغم أن حكومة السودان كانت في أديس أبابا غير ذلك تماماً، بل بادرت باطلاق سراح السفن المحملة بالنفط الجنوبي التي كانت في طريقها إلى الأسواق الخارجية، كما تم ذلك عبر توجيه من السيد رئيس الجمهورية للسيد وزير النفط في الخرطوم. لقد كان ذلك كله وغيره يجري ويعلن من قبل حكومة الجنوب ورئيسها الفريق سلفاكير- كما قال السيد الرئيس- لأن وراء الأكمة ما وراءها كما يقولون. فالحكومة في الجنوب والتي خلفها من خلفها من الدول واللوبيات الأمريكية والإسرائيلية، تستغل آلية النفط وعائداته المستحقة لجمهورية السودان كعنصر ضغط سياسي واقتصادي، بغرض إسقاط الحكومة في الخرطوم، والوضع لديها مأزوم وحرج اقتصادياً جراء توقف مداخيل النفط. بيد أنها-أي حكومة الجنوب ومن خلفها يركضون خلف السراب، وتغيب عنهم الحقائق والتجارب- كما يقول الواقع على الأرض- ذلك أن موارد النفط في السودان قبل الانفصال قد استغلت في البنيات الأساسية والخدمات، كالسدود والطرق والكهرباء، مما مهد الطريق لجذب الاستثمار وتحريك العمل في الزراعة والصناعة والنفط، ثم جاء الذهب كهبة ربانية ليسهم في الموازنة بين الصادر والوارد، إذ صار تعدين الذهب اليوم صناعة لها آلياتها الحديثة إذ أنها ستخرج بمبادرة البنك المركزي من التصدير في شكل خام إلى منتج نهائي تقريباً.. والمتوقع هذا العام انتاج خمسين طناً من الذهب بعائد يبلغ 2.5 مليار دولار. والبرنامج الثلاثي الذي بدأ هذا العام، وهدفه معالجة الفجوة والخروج منها بشكل كامل من أهدافه زيادة انتاج النفط والزراعة والزيوت النباتية والسكر والقمح، الذي هناك اتفاقيات تجعل تغطية العجز فيه متاحة بشكل عام نستطيع أن نقول إن الاعتماد على الضغط اقتصادياً من أجل إسقاط النظام الحاكم لم يعد هو ما يحقق الهدف، ذلك أن النظام درج على مقاومة مثل هذه الضغوطات، وفي ظروف كانت هي الأصعب، أي حيث لم يكن هناك ذهب أو نفط أو انتاج كافٍ للسكر وغيره، بل على النقيض من ذلك، فإن مردود إغلاق آبار النفط في الجنوب وعدم تدفقه عبر الشمال.. ثم إغلاق الحدود بين البلدين سيكون له مردوده السالب على المواطن الجنوبي، الذي يعاني من الجوع والتخلف وغياب الخدمات، ذلك أن (قسمة السلطة والثروة) قبل السلام وعائدات ذلك بعد الانفصال، لم تذهب إلى التنمية، وإنما الى جيوب المسؤولين والنافذين هناك!!.. وبعد ملف الجنوب في ذلك الحوار الرئاسي، كان ملف الحديث المتنامي عن الفساد، هو الملفت للنظر أكثر من غيره شأنه في كل زمان ومكان، حيث أن الفساد بأشكاله المختلفة وارد دوماً بيد أن الرئيس قطع هنا بأمرين مهمين: الأول: أن حكومته درجت على تقديم تقرير المراجع العام للهيئة التشريعية القومية وهو كما قال ما لم يكن مسبوقاً الثاني: هناك لجنة حسبة وقوانين وآليات خاصة بذلك، لاسيما وأن المسؤولين كبارهم وصغارهم لهم إبراءات ذمة لدى النائب العام وضرب مثلاً بنفسه. ثم أضاف السيد الرئيس في لقائه مع الأستاذ الطاهر حسن الطاهر أن الحديث عن الفساد متاح ومباح، ولكن بحقه فلا كبير على القانون، وما تدعي صحيفة (التيار) أنه سبق لها هو ما وصل إليه شخصياً ثم أحاله إلى جهات الاختصاص وأخذت الاجراءات بحق من اتهموا قبل وصول المعلومة ل(التيار) بأربعة أيام!! ملف الفساد ساخن على كل حال، ولكنه وفق ما سبق يجد اهتماماً وحساباً من الدولة، ذلك أنه مشكل له حضوره في كل بلاد الدنيا، فليطرق هذا الباب كل من شاء وأراد، ولكن لكل شواهده ومبرراته وإلا صار ذلك (كلام والسلام).. وهناك ملفات أخرى طرحت وتتابعت وقطع فيها السيد الرئيس بجدية وهي: ملف الرشاقة والتقشف في السلطة والإدارة، ويرى أهل الإعلام والسياسة أنه غير ذلك، ثم ملف المذكرات، وملف المناصير، ففي كل أتى السيد الرئيس بجديد تقريباً، ذلك أنه برر عدم الرشاقة والتقشف في السلطة بضرورات السياسة والاستقرار والأمن، وهذا صحيح. ذلك أن دخول أحزاب في السلطة وإعادة توزيع الولايات في دارفور مثلاً استجابة لوثيقة الدوحة، كلها ترتيبات لها مبرراتها، وإن رفعت من سقف الصرف في الموازنة العامة، ذلك أنها (ترتيب ضرورة) والضرورات تبيح المحظورات. أما مذكرات النصيحة والتصحيح والرأي الآخر في الحزب والحركة، فقد أكد السيد الرئيس أنها ممارسات طبيعية ومعتادة في الأحزاب الكبيرة، ولكن لها سبلها وطرحها في المؤسسات، لاسيما الراتب منها، والذي له التزامه ومؤسساته ونظمها اللائحية ومواثيقها كالحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني. وعليه لابد أن تكون هناك محاسبة لمن يخرج عن ذلك، والمذكرة المذكورة وذائعة الصيت لم يكن خلفها (ألف موقع) كما يقولون وإنما ذكر في آخر سطر منها أن هناك ألف شخص سيوقعون عليها وهو ما لا نعلم عنه شيئاً حتى الآن - هكذا قال السيد الرئيس. وعن الحكومة العريضة وحصة المؤتمر الوطني من الوزراء المعمرين في السلطة قال إن وزراء حزبه العشرين في الحكومة كان منهم خمسة فقط من القدامى، وهم د. الجاز- ود. المتعافي- وكمال عبد اللطيف- ود. فيصل حسن إبراهيم- والبقية (15) وزيراً أقدمهم عمره عام ونصف في الوزارة لا أكثر، فما شاع وقيل في هذه الناحية أي أن وزراء المؤتمر الوطني قدامى ومعمرين رد عليه الرئيس بالأرقام والأسماء. وما لفت الانتباه وشده تلك الليلة على قناة النيل الأزرق وغيرها هو حضور ملف المناصير الذي طال ، آخذاً بعده السياسي أكثر من غيره، وأعداد منهم تواصل الاعتصام في عاصمة ولاية نهرالنيل (الدامر).. فقد أفاض السيد الرئيس في ذكر قضية المناصير وفصّل فيها، على نحو لابد أن يكون له إضافاته لمن لم يكن له إلمام كامل بالموضوع إلا أن ما هو أكثر مدعاة للاهتمام في النهاية هو أن السيد الرئيس انحاز إلى الدستور والقانون والممارسة في العلاقة بين المركز والولايات والمؤسسات الدستورية، قاطعاً بعدم الاستجابة لمطلب المعتصمين في ذلك الخصوص، أي سحب السلطات من هذه الجهة لصالح تلك الجهة أو نحو ذلك. لقاء مساء الجمعة بين السيد الرئيس والمشاهد عبر القنوات السودانية بقيادة قناة النيل الأزرق كان لقاءً سياسياً كامل الدسم، وله موقعه لدى من يعنى بالشأن السياسي والعام في السودان، ذلك أنه وضع النقط على الحروف وأعان من يقرأ الأحداث ويحللها على أن يقوم بذلك، وبين يديه الكثير من المعلومات، وبخاصة في مشكل العلاقة بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، فالسودان الذي ظل ثابتاً على مبدأ وخيار السلام ودفع مقابل ذلك الكثير هو الآن أيضاً أكثر حرصاً على السلام . ولكن هل كل ما يشتهي المرء ويتمنى يدركه.. للحكومة في الجنوب أهداف أخرى تسعى اليها وتركض خلفها بدَفْع من آخرين وهي كما ورد ذكره إسقاط الحكومة في الخرطوم عبر الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية أيضاً.. المناخ والجو الآن والحال كذلك أقرب للحرب منه للسلام. لقد كانت الأسئلة التي وجهت للسيد الرئيس صعبة بحق، ولكنه أجاب عليها بمصداقية وصراحة -حفظه الله.