عندما طرد إفلاطون الشعراء من جمهوريته كان يستند على نظريته الجمالية، فكل شيء في نظره هو محاكاة لشيء في عالم المثل.. فالنجار عندما يصنع كرسياً فهو يحاكي شيئاً في خياله، وهذا الشيء الذي في خياله هو محاكاة لشيء في عالم المثل، عالم الفكرة المطلقة. وعندما يأتي شاعر ليصف لنا هذا الكرسي فإنه يكون قد ابتعد عن الحقيقة، بقدر ابتعاد الشيء الذي يصفه أو يحاكيه من عالم المثل.. فهو إذن كاذب، ولهذا يستحق أن يطرده من جمهوريته. هذه فلسفة عميقة عارضة فيها تلميذه ارسطو، فخرج بنظريته في المحاكاة، التي أسست ونظرت للدراما، فكانت نظرية أرسطو في الدراما، ولكن ما يعنينا هنا هو ذهنية إفلاطون التي قادته إلى طرد الشعراء من مدينته الفاضلة، إن كان محقاً أم غير محق. وإفلاطون نفسه هو القائل بأن هناك سلالم موسيقية ونغمات تدعو إلى الانحلال والتفسخ. يا ترى إن استمع إفلاطون إلى غناء هذه الأيام فماذا هو قائل؟ إن فلسفة الغناء هي أن يتمثل المستمع المطرب والأغنية، ولهذا كانت مخاطبة الغناء للمحبوب أياً كان هي مخاطبة الذكر للأنثى حقيقة أو افتراضاً، فعندما يقول الراحل عثمان حسين بحبك بحبك إلى ما لا نهاية، فهو يخاطب المحبوب الأنثى افتراضاً، والأنثى تخاطب المحبوب الذكر وتتمثله في خيالها، إن كانت في حالة عشق أو تفترض أنه يغني لها أو له، ومن هنا نشأت ظاهرة مجانين الفنانات ومجنونات الفنانين. ولكن المطربة (الأنثى) تخاطب المحبوب الذكر وتعيش حالة الأنثى، ولهذا كان لها أن تتغنى بكل المواضيع الاجتماعية التي تدعم حالتها كأنثى وفق طبيعتها، وكذلك المطرب الذكر يدعم كل ما يؤكد وجوده كذكر من خلال غنائه.. فعندما تخاطب المطربة أنثى مثلها في الغناء، فإن هذا ضد طبيعتها كأنثى وتبدو وكأنها من الشواذ والعياذ بالله.. وكذلك المطرب (الرجل)، فهل يُعقل أن يغني مطرب ما حالة أنثى تحكي تكوين جنينها ومعاناتها في المخاض؟ إذن هناك مواضيع تناسب المطرب الذكر، وأخرى تناسب المطربة (الأنثى)، حتى لا تختلط الأمور، ونخرج أجيالنا لا يفرقون بين طبيعة الأشياء وطبيعة الأحياء. هذه المسلمات لم تكن بعيدة عن أذهان لجان النصوص والألحان، عندما كانت هناك لجان نصوص وألحان تميز الغث من الثمين. أذكر ونحن طلاب في معهد الموسيقى والمسرح كان صديقي يوسف الموصلي مغرماً بلحن أغنية أبوي للشاعر الجميل سعد الدين إبراهيم، والتي تقول كلماتها: أبوي شعبتنا روح آمالنا ضوَّ البيت ضراعو الخدرا ساريتنا نقيَّل وفي ضليلو نبيت هذه الأغنية كان من وضع لها اللحن الملحن البارع عبد الماجد خليفة، ولأنه كان يتبنى يوسف الموصلي لم يمانع في أن يغنيها يوسف الموصلي، وبالفعل حفظها وبدأ في ترديدها وذهب بها إلى الإذاعة السودانية لتسجيلها رسمياً. المفاجأة كانت في لجنة النصوص والألحان، فقد أجيزت كلمات الأغنية واللحن دون أي تردد، الاعتراض كان من الراحل شيخنا إبراهيم الصاوي، الذي كان من رأيه أن هذه الأغنية لا تليق بمطرب ذكر، فذهبت الأغنية إلى المطربة منى الخير. أخذتنا حماسة وفورة الشباب حينها، وذهبنا مع نظرية المؤامرة، وقلنا إن المقصود هو إيقاف مسيرة الموصلي. والآن، وعندما استمع إلى منى الخير وهي تغني هذه الأغنية أدرك كم كان محقاً شيخنا إبراهيم الصاوي في الذي ذهب إليه. الأخ الفنان طه سليمان، هناك غناء يخصم من رصيد الفنان ولو بعد حين.