بدءاً أؤكد للقراء بأن كل الاتصالات والمراسلات التي وصلتني ستكون زاد حراكي، وعتاد عراكي، ومداد قلمي، الذي لا ولن ينحني أو ينثني في مواجهة خطوات الترغيب، أو في مجابهة أدوات الترهيب. ذكرت بالمقال السابق أن والي كسلا الحالي السيد/ محمد يوسف قد تم فرضه على الولاية برغبة مركزية صارخة، وعبر نزوة عنترية جارحة للمؤسسية، وهازمة للديمقراطية، وهادمة للشورية، ومصادمة لرغبة الأغلبية الغالبة من أهل ونخب كسلا، استعرضت ذلك ودونما إيراد لحيثيات تحركات النخب والقواعد التي عارضت ترشيح هذا الوالي آنذاك والتي تمثلت في الآتي : استسلمت مؤسسات الحزب وأجهزته بالولاية لرغبة المركز الضاغطة وهي مكرهة، استنكرت جماهير كسلا هذه الوصاية المركزية البابوية الخادشة لاستقلالية مؤسسات الولاية، انتابت جماهير الحزب بالولاية حالة من الاستبخاس والاسترخاص، انتفض على إثر ذلك رئيس المجلس التشريعي بالولاية السيد/ أحمد حامد والذي تصدر قائمة المرشحين بحكم عدد الأصوات التي نالها (117) صوتاً تقريباً، وهي صدارة هيئاته وأهلته وصممته نفسياً ليتكئ على يقين جازم بأنه هو وحده الأوفر حظاً والأكثر استحقاقاً لتزكية المركز، ولوراثة الموقع الأول بالولايه، هدد المركز حين تجاوزته التزكية المركزية، وأعلن عن عزمه لترشيح نفسه خارج مظلة المؤتمر الوطني، وعد جماهير كسلا بمؤتمر صحفي يؤكد سيره في الاتجاه المعاند لرغبة المركز، آزرته القوى الحية، ساندته غالب الإدارات الأهلية والقيادات الشعبية - ساندته التيارات المجتمعية المدنية - عضدته كل الأطياف السياسية المؤيدة والمعارضة معاً، لا تعاطفاً مع شخصيته ولكن انعطافاً مع اتجاه الغيرة الجغرافية، ذلك لأن موقع الوالي هو- بنظر أهل كسلا- حق معنوي مؤصل، واستحقاق جغرافي أصيل، اعتمدته رئاسة الحزب في تعاملها مع مرشحي الولايات الأخرى، انتظمت كسلا تعبئة عفوية غير مسبوقة، أُعدت من خلالها الشعارات، وصممت عبرها الهتافات، وتراصت على هداها الصفوف، وتلاحمت على هديها الجهود، ولكن فجأه ومع وصول التعبئة العفوية لذروتها تراجع السيد أحمد حامد عن الوعد الذي ضربه مع الجماهير لترشيح نفسه مستقلاً عن حزب المؤتمر الوطني.. تلاشت ودونما مقدمات فورته الأندروسية اللحظية وبذات السرعة الصاروخية التي انطلق بها ولأسباب الافصاح عنها لا يفيد حالاً، والخوض فيها لا يخدم مآلاً، ذلك لأنها في بند المعلوم وفي خانة المفهوم. هذه المقدمة هي لازمة وضرورية، لجملة مقصودات عناها هذا المقال يأتي في صدارتها إحاطة القارئ الكريم بالأسباب الحقيقية التي قادت هذا الوالي، إلى المنصب الأول بالولاية، والسبب الثاني هو أن هذه المقدمة تشكل إضاءة كاشفة تعكس تجليات أزمة نخب الولاية، والذين ظلوا يشكلون المكون الأصيل، والفاعل الأكبر لغالب أزمات الولاية، لو رفضت هذه النخب ترشيح أي والٍ من خارج أسوار الولاية، لنالت هذه النخب مكانة مخلدة في وجدان المركز، ولاحتلت خانة خالدة في أذهان أهل الشرق.. والسبب الثالث هو أن هذا الوالي يمثل بحيثيات الجغرافية، وبكيفيات التزكية، منتجاً من منتجات البيوت المحمية السياسية، التي انتجتها عبقرية المركز.. والبيوت المحمية لمن لا يعرفها هي جملة حيل علمية تستخدم لصناعة مناخ خادع يُخدع به النبات المستهدف ليزهر ويثمر خارج مناخه الأصيل، وفي غير موسم انتاجه الطبيعي. وفي سياق استكمال استعراض اخفافات الولاية لا بد من الاسترسال في إيراد بعض مشاهد الفشل التي طفحت في خريطة أداء هذا الوالي. النشاط الحياتي والمعيشي لأهل الشرق يقوم على ركايز اقتصادية تقليدية تتمثل في الزراعة والرعي، لذلك فإن أي جهد لا يلامس هذين المجالين هو جهد منكور شعبياً، ومنحور جماهيرياً، لأنه لا يمس المطلوبات الأساسية، ولا يستوعب الحاجات المحورية لغالب أهل كسلا، ولكن ما يؤسف له أن التعاطي الاقتصادي لحكومة الولاية ظل يعكس منهجاً هادماً لكل الركائز المعيشية لإنسان الولاية، والمتمثلة في المشروعات الزراعيه (القاش- حلفاالجديدة) كما أن ذات المنهج الاقتصادي المعوج قد أسهم في تحطيم البنيات الأساسية للثروة الحيوانية، وقاد إلى نفوق معظم الماشية، وهي من المكونات المعيشية المهمة لأهل الولاية، وأيضاً تمدد ذات الأثر السالب لهذه السياسات إلى القطاع البستاني، والذي تراجع انتاجه الكلي إلى النصف، وتواصلت مسيرة هذا الهدام الاقتصادي، حيث ابتلع غالب أرياف كسلا ودفع سكانها للنزوح نحو مدن الولاية كسلا أروما ليشكلوا حولها أسورة بؤس وأحزمة شقاء. لا يغيب عن البال أن بعض الصامدين من أهل الريف بالولاية ممن عز عليهم فراق أرض الآباء والأجداد، واستعصى عليهم الرحيل عن مراضعهم ومراتعهم، قد اتجهوا لتجارة الحدود، بعد أن فقدوا الزرع والضرع، ولكن هذه التجارة أيضاً قد انسدت أمامها السبل بالرسوم الجمركية الباهظة تارةً، وبقفل الحدود تارةً أخرى، وهو أمر جعلهم يتجهون لاختيار خيار التهريب بأثمانه الباهظة، وكلفته الخطيرة، والتي كلفت البعض منهم أرواحاً زكية، ونفوساً طاهرة، صحيح أن الجمارك شأن اتحادي، ولكن هذا لا يعفي الولاية من توفير بدائل معيشية تؤمن الكرامة والسلامة لمواطني الحدود، أيضاً تمددت حلقات التضييق المعيشي بالولاية لتصل إلى صغار التجار بسوق كسلا (الفريشين)، والذين ظلوا محل استهداف ومطاردة من قبل الولاية، بحجج لا يسعفها منطق سديد، وبمبررات لا يسندها منهج رشيد.. أيضاً استحكمت حلقات التضييق المعيشي باكتمال طريق بورسودان عطبرةالخرطوم، والذي امتص أغلب حركة النقل والمرور، وهذا الطريق رغم وجاهته الاقتصادية والأمنية إلا أن(قباحته) المعيشية لا يخفى أثرها لأي مراقب، والتي تمثلت في فقدان آلاف الأسر، وعشرات القرى لمصادر رزقها، حيث انكشفت المأساة وبصورة أكثر جلاءاً في غياب المعالجات الرسمية اللازمة لامتصاص الآثار الاقتصادية الكارثية عن المواطنين المرتبطين معيشياً بهذا الطريق، وهي معالجات يمكن أن تسهم في توفير بدائل معيشية لهؤلاء المتضررين، أو أن يتم تهجيرهم إلى مناطق أخرى تؤمن لهم كريم العيش، ذلك لأنهم متضررو مشروعات تنموية يكفل لهم القانون حق التعويض أسوة بمتضرري سد مروي. لا شك أن الحرب الأهلية التي دارت بالشرق قد أفرزت واقعاً مريراً بأرياف ولاية كسلا، عجزت حكومة الولاية في احتواء مظاهرها الأليمة وفي تجفيف ظواهرها الوخيمة التي خلفت آثاراً سالبة على قبيلتي(البني عامر والهدندوة). سيدي الرئيس.. أحسن الإنصات لأنين أهل كسلا، أمعن الإصغاء لما يجري ويدور في تلافيف المؤتمر الوطني، وفي تجاويف الحركهة الإسلامية، وقتها سيزول عنك احسان الظن بهذا الوالي، وستدرك حينها سوء تقدير المؤسسات التي قدمته لمكانة شانها، ولخانة ما زانها.